نعيش في لبنان هذه الأيام تحت وطأة التوتّر السياسي والأمني الأكبر منذ نشأة الكيان الصهيوني قبل نحو ٧٤ عامًا.
في الأزقّة والأحياء اللبنانية اليوم، سؤالٌ وحيد يمتطي ألسنة اللبنانيين ويشغل بالهم، صغارًا شبابًا وكهول: “رح توقع حرب؟!”.
لا أدّعي معرفة الجواب، ولا أهدُف من المقالة إلى التشويق والإثارة، إذ لا يعلم مواقيت الحروب بالتحديد إلا الله، حتى الفِرَق المتصارعة لا تقرع طبول الحرب إلا عند وقوعها، وهي تحضّر “عسكَرَها” على ضوء دراسة المؤشرات المسبقة واحتمالات الوقوع وتوقّع السيناريوهات.
منذ بداية الصراع المستجدّ حول ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، بين الدولة اللبنانية من جهة، والعدو الإسرائيلي الذي يغتصب بحر فلسطين من جهة أخرى، تصرّف الأميركيون، الذين يدّعون الوساطة، باستخفاف في طريقة التعامل مع الجانب اللبناني، وهو سلوك اعتيادي تجاه الخضوع والخنوع المقابِل لدى معظم الطبقة السياسية التي تحكم الدولة اللبنانية.
ظلّ الاستخفاف كامنًا، يقابله استهتار من الناحية الشمالية (اللبنانية)، لحين دخول المقاومة، خلف الدولة اللبنانية، كعامل قوّة مساعِد في إطار التفاوض القائم.
ضاق الوقت مع تحديد العدو موعدًا لبدء استخراج الغاز من مناطق “متنازع” عليها، أو أقلّها لا زالت ضمن إطار المسار التفاوضي ولم يُحسم أمرها بعد.
مباشرةً رفع حزب الله سقف التحدي (الغير مسبوق بهذا المستوى)، لإفهام العدو جديّة التهديد، وهو الذي يعرف (أي العدو) جيدًا جدًا أن الحزب لا يمزح في هذه الأمور بتاتًا.
سادَ الترقّب لما سيجري في أيلول، وارتفع منسوب الضغط إلى حدود قصوى، وسريعًا امتطى اللبنانيون قطار التحليل العسكري، وانشغلوا بكل فئاتهم باحتساب المؤشرات الأمنية حول احتمالية وقوع الحرب.
مؤشّرات عدم وقوع الحرب
أميركا، التي ورّطت نفسها وتورّطت بحرب عسكرية مع روسيا على الأرض الأوكرانيّة، وألزمَت نفسها استكمال مسارها التي اصطدمت بعدم وجود حظوظ انتصار لها فيه، لا يوجد لديها ترف الحروب في الوقت الحالي. السنة الآن لا تشير إلى الـ٢٠٠١، والشرق الأوسط ليس عام ٢٠٠٣، كما والعالم لا يقبع في العام ١٩٨٩ عشية سقوط تعدّديّته القطبية.
لم تعُد أميركا، بكل قوّتها وعظمتها المتآكِلة، والآيلة إلى السقوط في المستقبل، هي من تحدّد أزمان الغزوات ومواقيت الحروب. هي منشغلة الآن في صنع استراتيجيّات جديدة تكبح هذا التآكل، وتحافظ على وجود الكيان الامبراطوري وخصائصه التي تحكم العالم.
تراها في ميدان النفط العالمي تارةً، وتارةً أخرى تلمحها تصارع في البحر الأصفر داخل المحيط الهادئ، علّها تجد في الشرق الأقصى ضالّتها، تكبح جماح المارد الاقتصادي الكبير الذي يكاد يبتلعها بعد عدّة من السنين المقبلات.
معايير أميركا لم تَعُد مُنزَلة، لدى أصدقائها قبل الخصوم، و “وهج” الامبراطورية ماضٍ نحو الخفوت يومًا بعد يوم.
الاتفاق النووي على ما يبدو أصبح قريبًا، والعلاقة الإيرانية مع الدول العربية ستكون أفضل. الأتراك “يستعطفون” السوريين لفتح أبوابهم الرسمية أمامهم، والعرب يعبّدون الطريق نحن دمشق. بعد فشل رهاناتهم وخسارة الحرب الكونية ضد الدولة السورية.
المسار السياسي في المنطقة لا يوحي إلى حرب، إنما إلى اتفاقات وتقارب وتفاوض.
إسرائيل، المرتدعة، لديها مشكلتَين أساسيّتَين لا تدعها تكون جاهزة حاليًا إلى حرب:
أولاً، الصراع السياسي الداخلي المحتدم في الكيان المختلّ (ليست خطأً مطبعيًا)، والتناحر “النقطوي” بين الأقطاب السياسية عشية الانتخابات النيابية المبكّرة في تشرين من العام الجاري.
الفريق السياسي المعارِض بريد توريط ائتلاف السلطة المختَلّ هو الآخر، بأي شكلٍ من الأشكال. يتمنى الأول إيقاع الثاني في مستنقع أزمات تقوّض حظوظه في الانتخابات المقبلة. لذلك هم “يستمهلون” المقاومة لما بعد الانتخابات، لكنهم تلقوا الجواب المناسب منها بأنها غير معنيّة بتاتًا بشأن انتخاباتهم ونتائجها.
ثانيًا، من الناحية العسكرية، هناك مشكلة حقيقية تواجه الكيان العسكري الاسرائيلي والجيش، بحيث يظهر لديه تباعًا عدم قدرتهم على حسم أي معركة مستقبلية مع حزب الله لصالحهم، وجهاز الاستخبارات العسكري يدرك عند كل استحقاق أن حزب الله سبق معطياته وإبطال مفاعيلها. ولا تزال معادلة الردع التي أرستها المقاومة في لبنان تشكّل النقطة الأساسية في وعي الجهات السياسية والعسكرية في إسرائيل. عليه، فإن القرارَين السياسي والعسكري الاسرائيليَين لا يحبّذان الحرب، وغير جاهزَين لها.
مؤشرات وقوع الحرب
يبدي الإسرائيليون الكثير من الامتعاض مع ظهور بوادر اقتراب الاتفاق على “خطة العمل الشاملة” بين إيران من جهة، وأميركا ودول الغرب من جهة أخرى. اسرائيل، التي ما برحت مواضع الفتنة والضغط لعرقلة إتمام الاتفاق مع ايران، لما تعتبره من خطر استراتيجي على أمنها القومي، “تحرتق” اليوم في واشنطن عبر مسؤول مجلس أمنها القومي، تسعى للإستحصال على ضمانات أميركية تحيّدها عن حدوث أضرار بنيويّة لكيانها في حال وصل الاتفاق النووي إلى خواتيمه الايجابية.
وهنا السؤال الذي يطفو على تحليل الحدث: “هل ستسعى اسرائيل إلى عدم التوصّل لاتفاق على ترسيم الحدود البحرية، فتستغلّ ذلك لافتعال صخب عسكري في المنطقة وإجبار الأميركي بالتالي إلى تبنّي عبثها، ولو لأيام قتالية لا ترقى إلى الحرب؟”. فتضغط على رعاتها الأميركيين والاوروبيين لتحصيل مكتسبات سياسية معيّنة تُبطل مفاعيل الاتفاق اتجاهها.
لكنها إن فكرت بهذه الطريقة، تكون قد أخطأت الصواب، إذ إن ما ستلاقيه من ردة فعل المقاومة سيكون مدمّرًا وغير متوقّعًا، وهذا ما أشار إليه مرارًا قائد المقاومة، وذكّر به القائد الجهادي في حديثه الصحفي نهار الجمعة الماضي.
المقاومة لن تعطي فرصة للإسرائيليين للمناورة، ولن يمر أي عمل عدواني دون حساب أليم، يزيد “الطين بلّة” في الوعي الاستيطاني لدى الاسرائيليين، ويدق إسفينًا إضافيًا في نعش الكيان وعلّة وجوده.
على صعيد آخر، هناك احتمال في استدراج رئاسة الحكومة، عبر المعارضة، إلى ارتكاب “دعسة” ناقصة والتورّط في عمل غير محسوب، ولو على حساب المستوطنين الإسرائيليين. نتنياهو يسعى اليوم بكل قواه السياسية الداخلية إلى إظهار خصومه السياسيين على أنهم ليسوا بقدر المسؤولية لإدارة الكيان، لا من الناحية السياسية ولا الأمنية، ويحاول إظهارهم دائمًا على أنهم مراهقين ليس لديهم خبرة في الشأن العام والرؤية الاستراتيجية للدولة المحتلة.
خاتمة
بناءً على ما تقدّم، يظهر أن احتمالية عدم وقوع الحرب أكبر من احتمالية وقوعها، ذلك لأن المؤشرات التي تستبعد الحرب متعلقة بالشأن الدولي ووضع أميركا الاستراتيجيّ ورؤيتها المستقبلية، أما المؤشرات المعاكِسة، التي تتوقّع حدوث الحرب، فهي تتعلّق بإمكانية ذهاب العدوّ نحو التصوّرات الخاطئة والقراءات العبثية الناتجة عن النكد السياسي الداخلي الإسرائيلي.
دعونا من التحاليل التقنية للقضية، صراعنا المستمرّ غير مبني دائمًا على الواقعية التحليلية، إنما البناء الأساسي على واقعية المقدرات والجاهزيّة والإرادة.
من قال أن الحروب دائمًا سيّئة، يمكننا استخلاص ذلك إذا نظرنا إلى الخسائر البشرية والمادية، لكن صراعنا مع الأعداء ليس صراعًا على الأرض والغنائم، إنه صراع وجود واستمرار، صراع الحياة والعيش الكريم، صراع التحرّر والعزة والكرامة.. وبالتالي، قد تكون الحروب سبيل النجاة ومدماك التحرّر والطريق نحو انتزاع السيادة من قوى الهيمنة والاستفادة من مواردنا.
وأستعير من المرحوم الكبير مظفّر النواب هذين البَيتَين اللذين يختصران كل شيء:
فليكُن هذا النفط فدائيًا، أو ننسفه ونعيش على العزّة والحطب..