تعدَّدت التفسيرات حول سياسة حافة الهاوية ومغزاها، وجميعها كان يصبُّ في معانٍ متقاربة ومتجانسة. سياسة الحافّة كما يروق للبعض تسميتها هي دفع الأحداث الخطيرة نحو مزيد من التأزم والتعقيد ومحاولة إيهام الخصوم بعدم التراجع أو الرضوخ لمطالبهم في سلوك خطِر يضع أطراف النزاع على حافة المواجهة، وليس بالضرورة أن يؤدِّي إلى وقوع صدام. هذه السياسة استخدمت في الإستراتيجيات العسكرية من خلال رفع مستوى التحدّي وحشد القوات والأسلحة على شفير الحرب والقتال ودفع الأمور على طريق تصعيد الأزمة بهدف تحقيق المكاسب وإلزام الخصم بالتراجع وتقديم التنازلات في مناورات تخلق انطباعا أنَّ الخيارات المتطرفة موضوعة على الطاولة لتحقيق ذلك.
قد يقول قائل إن طرفي الصراع عادة يسيران على حافة الهاوية في التصعيد ودفع الأمور نحو الصدام، ولكن في حالنا اليوم ما بين العدو الصهيوني والمقاومة في لبنان فرق شاسع بين من يدفع الأمور نحو الصدام عدوانًا واغتصابًا للحقوق باطلًا وبين من يسعى لانتزاع الحقوق المغتصبة من قبل العدو والدفاع عن الأرض والحدود والثروات.
منذ ما بعد اندحار الاحتلال الإسرائيلي من محيط بيروت والجبل وصيدا في العام 1985 تحت ضربات المقاومين بدأت سياسات العدو تأخذ هذا المنحى الانحداري في مقاربة الأحداث وطريقة التعامل مع المتغيرات في المواجهة القائمة، في استخفاف واضح لتلك المجموعة المقاومة التي كانت قد بدأت تزعزع أسس احتلاله لجنوب لبنان وتخلخل كيان دويلته العميلة وتحول يومياته إلى كابوس مقلق ومرعب يمنعه من الاستقرار والاطمئنان وحتى النوم ليلًا، وكلما ارتفع منسوب عدوانه وهمجيته وارتكابه المجزرة تلو الأخرى في صفوف المدنيين الآمنين العُزَّل أو في اعتماد سياسة الأرض المحروقة وتدمير القرى في تجاوز لأبسط قواعد القانون الدولي الإنساني وأخلاقيات الحروب وأولها حماية المدنيين الآمنين، كان يدفع بالأمور دائمًا نحو حافة الهاوية في الردِّ عليه والمواجهة معه في انجرافٍ وتمادٍ وغطرسةٍ وقحةٍ معتقدًا أن هذا الأمر يساهم بكسر إرادة المقاومين على القتال. ولكن وككل مرة كان يلاقي تصاعدًا في نوعية الرد ومراكمةً في القوة وعزمًا وإصرارًا وإرادة صلبة على المواجهة، وكان ظنّه يخيب وينكفئُ يجرُّ أذيال الخيبة والهزيمة.
اليوم هذا العدو الصهيوني وكعادته يمشي على حدِّ السيف حافيًا، وما الهمروجة التي نشهدها جوًّا وبرًّا وبحرًا مع تحريكٍ للمشاة ونقلٍ للمدرعات إلى الجبهة الشمالية -ولو أنها تحت مزاعم تبديل للقوات- وحركة طيرانه الحربي شبه الدائمة في أجواء لبنان وفلسطين لاستباق أي عملٍ من قبل المقاومة -كما يزعم- ما هي الا ترجمة واضحة لتلك السياسة في السير على حدِّ السيف نحو الهاوية، حيث إنَّه وفي أي تقديرٍ خاطئ للموقف يمكن أن يؤدّي إلى تصعيد خطير قد ينفلت في أي لحظة من عقاله إلى ما لا تُحمد عقباه. كما أن رسائل التهويل المتكررة والمتصاعدة هذه تهدف الى إخافة المُرجِفين والمُتصاغرين والمخذِّلين والمنهزمين أمام عدوانه وغطرسته، وتاليًا يقوم هؤلاء وكالعادة بتعظيمه والتشكيك في القدرة على مواجهته، يوهنون العزائم ويضعِفون القُوى ويفتّون في العَضُد، يثبِّط بعضهم بعضًا في تكرارٍ ممجوج لمقولة قوة لبنان في ضعفه والعين لا تقاوم المخرز وآخرها بدعة الحياد وفذلكته التي أضاعت دماء وتضحيات المقاومين في بازارات المساومة على الحقوق وفي طيَّاتِ الابتسامات الخبيثة في لقاءات مبعوثي الغرب ودول التطبيع.
هذه السياسة المتهورة التي يسير بها قادة العدو الإسرائيلي تضع الكيان الغاصب بكلِّه وكلكَلِهِ فوق صفيحٍ ساخن في تقديرٍ خاطئ لاستعدادت الجبهة المقابلة وقدراتها وإرادتها في المواجهة وعمقها على مدى المحور وساحاته يضعهم أمام مصداقية مواقفهم وتهديداتهم. وفي الآونة الأخيرة ارتفعت في وسائل الإعلام الإسرائيلية وتيرة التحذير من هذا السلوك وهذه المواقف محذرةً الطاقم السياسي والأمني من القراءة الخاطئة لتوازنات الردع القائمة.
اليوم، الجبهة في الشمال نشطة، وعلى جانبي الشريط الشائك حشودٌ وتعزيزات واضحةٌ وخفيَّة، في تعبير صريح عن عمق الأزمة والقرار الذي تتخبط فيه حكومة العدو على المستوى الداخلي. وما محاولاتها لتأجيل البت في قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين إلا لحاجتها لالتقاط الأنفاس بهدف التفرغ للصراع السياسي القائم داخل الكيان على مستوى الأحزاب والتكتلات، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى تقدّم اليمين الليكودي في هذه الانتخابات القادمة، وخوفًا من تقديرٍ خاطئ أو دعسةٍ ناقصة تودي بمنجزاتها السياسية الداخلية وتقضي عليها، دون أنَّ نغفل عن أن هذا العدو غادرٌ ولئيم ولطالما اقترع بدماء اللبنانيين.
هناك البعض ممن يقول إن المنطقة والإقليم يشهدان فكفكة لملفاتها المعقدة ولصراعاتها الدائرة وإننا متجهون نحو استقرار وهدوء وإعادة ترتيب للنزاعات فيها مما يمنحها نشاطًا اقتصاديًّا وتبادلًا تجاريًّا وتصديرًا للنفط والغاز في ظل الصراع الروسي –الأطلسي القائم وحاجة أوروبا الماسة للنفط والغاز على أبواب الشتاء القادم. ومؤشرات هذا الاستقرار المتوقَّع -وفق أصحاب هذا الرأي- ما آل إليه كثيرٌ من الملفات الشائكة، على سبيل المثال لا الحصر: محادثات الاتفاق النووي الإيراني – الغربي وصياغاته النهائية مضافًا إليها مواقف دول الخليج ومسارعتها تجاه إيران لإعادة وصل ما انقطع (عودة السفيرين الإماراتي والكويتي إلى طهران ودخول الحوار الإيراني – السعودي مرحلته الأخيرة في عمق القضايا التي تهم البلدين)، ناهيك عن الموقف التركي وحركته النشطة نحو أكثر من دولة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا رغم عدوانيته وأطماعه في الشرق والشمال السوريين، وبروز مواقف عربية وخليجية إيجابية تجاه سوريا في إعاد قراءة للمرحلة العدائية الماضية تجاهها، دون إغفال ما يجري في اليمن من إعادة ترتيب للأوراق ولتحالفات القوى المشاركة في العدوان وسيطرتها على مناطق في الشرق والجنوب. كل هذا يدفع هؤلاء للقول إن لا نزاع أو قتال سينشب بين لبنان والعدو الإسرائيلي وذلك لحاجة الجميع إلى الاستقرار والهدوء على هذه الجبهة وأهمية هذا الاستقرار لدول المنطقة مع الأخذ بعين الاعتبار وجود جمر نارها تحت الرماد وفتائل تفجيرها قائمة في حال لم ترضخ “إسرائيل” ووسيطها المفاوض لإرادة اللبنانيين والمهل الزمنية التي وضعتها المقاومة لترسيم الحدود البحرية وانتزاع الحق في البدء باستخراج النفط والغاز.
ولكن، يبقى السؤال الأهم: أين روسيا من كل ما يجري؟ هل ستبقى في موضع المتفرج على الأحداث وخارجها؟ وأي دور ستلعبه في حال انجرفت الأمور نحو المواجهة؟ أسئلة مشروعة، وخاصّة أن كل ما يجري هو للالتفاف عليها ولتخفيف آثار اجتياحها لأوكرانيا وانعكاساته الاقتصادية والحياتية على مجمل أوروبا وإسقاط مفاعيله على مستوى تعدد الأقطاب في العالم، مما وضع قارة بأكملها تحت سيف الحرمان من الغاز الروسي الحيوي لحياة الناس ودفئهم هناك وخاصة أننا على مشارف فصل الشتاء البارد عادة في أوروبا كلها، والمصلحة الروسية أكيدة في تصعيد الموقف ممَّا يزيد المأزق الغربي – الأطلسي ويجعله أكثر تعقيدًا، وهل آن موعد ردِّ الصَّاع الروسي صاعين لأمريكا ومن معها في المنطقة على الدور السيئ الذي لعبته على ساحة الصراع وتغذيته وإطالة أمده في أوكرانيا من خلال دعمها اللامحدود للرئيس فولوديمير زيلينسكي الموالي لها هناك دون إغفال الدور الإسرائيلي المتواطئ أيضًا؟
أخيرًا، تبقى نقاط لا يمكن تجاهلها ويجب أن تبقى العين عليها ومنها أنَّ المحور المعادي للمقاومة لديه الكثير من نقاط الضعف الهشَّة والتي هي تحت مرمى النَّار ولن تكون بمنأى عن الاستهداف أو الاستنزاف في حال خرجت الأمور من عقالها، وأهمها محطات استخراج النفط على طول الساحل الفلسطيني من كاريش وما بعدها إلى لفيتان وتامار وغيرها والتي منذ البداية دخلت في لائحة الأهداف المفترضة لدى المقاومة، مضافًا إليها ما هو موجود في ما يسمى بالحديقة الخلفية لروسيا في المنطقة: قاعدة التنف (جنوب شرق سوريا) التي هي بمثابة معسكر لتدريب وتوجيه المجاميع الإرهابية المعادية لسوريا، وتمارس دورها التخريبي تحت عين ونظر الأمريكي، وأيضًا القوات الأميركية المنتشرة في منطقة الجزيرة السورية (شمال شرق سوريا)، والتي تقوم بسرقة النفط السوري يوميًّا وبانتظام، كلها ستكون أهدافًا سهلة في حال اندلاع المواجهة، وأيلول لناظره قريب.