مهدي ياغي – خاص الناشر |
يعتبر تقييم وقراءة أيّ تجربة بشريّة أمرًا لازمًا لتقويمها واستمراريتها. ولعلّ أكثر ما يغني أو يثمّن نتاجها هو القيمة الإنسانيّة والحضاريّة التي قدّمتها والبصمة على المسار التاريخي للأمم والشعوب. وأيّ قيمة أو أثر قد يتوقّع المرء من جزءٍ من مكوّنٍ من بلد صغير يقبع في إقليم مشتعل على الدوام تكاد تشارك في التأثير فيه كل بلاد العالم، وضمن حقبة تاريخية محتدمة حافلة بالصراعات والتحوّلات الكبرى؟
عندما تشكّلت ونمت مجموعات المقاومة الإسلامية في لبنان ثمانينيات القرن الماضي، لم تكُن بذرة لحظة كانت فيها الحاجة امّ “الانطلاق”، إنّما ثمرة منظومة قيميّة عريقة وشاملة عمرها قرون؛ إذ إنّ الشباب المتديّن الإسلامي استند ولا زال إلى عقيدة وأيديولوجيا الإسلام التي يحبّون أن يطلقوا عليها “الإسلام المحمّدي الأصيل”.
إذا عُدنا بأصل هذه العقيدة، وترجمتها على أرض الواقع، فإنّ رسالة الإسلام نزلت على قلب رجلٍ يعيش بين “الثقلين” من عباد الله، في أرض قاسية قاحلة، أهلها يقتاتون على العشب والنهب والسلب والقتل لأجل غنمة أو سواها، متجذّرين في العصبيّة القبليّة، والعرقيّة، ويئدون النساء ويتحكّمون بكافّة تفاصيل حياتهنّ.
وقد أسس النبيّ محمّد مجتمعًا ودولةً من رحم هذه الجاهليّة المظلمة، انطلاقًا من الإصلاح بين القبائل والقوم في إصلاحه بين الأوس والخزرج، ثمّ أذاع فيها أن لا فضل فيها لأشراف العرب على العجم أو أصحاب البشرة البيضاء على أصحاب البشرة السوداء بل هم سواسية، والفضل بينهم لأكثرهم تقوى. وبعد أن نظّم العلاقات وكرّم الإسلام النساءَ بالحجاب ليخرجن للمجتمع بقيمتهنّ الإنسانيّة لا بالجانب الجسدي الانثوي حصرًا كما ساد ويسود اليوم، ذهب ليضع مداميك لتطوّر الدولة ومن جملتها وجوب تحصيل العلم ولو في الصين وجعل منه فريضة. وعليه نشأت دول إسلامية تطوّرت وتفوّقت في ما اتخذته واجبًا وأعطته الأهمية -العلم مثلًا- فيما قبع باقي العالم في عصور الظلام، وكان للمسلمين في ما أسرفوا أو فرّطوا فيه ظلاميّة كذلك.
قرون مرّت والمنطقة تسودها دول خلافة حكمت باسم الإسلام. لم يبقَ من الإسلام إلّا اسمه عنوانًا للحكم فيما كان أغلب حكّام وقادة مجتمعات المنطقة بعيدين عن الإسلام وأهدافه والتوعية والتحريض الموجهين لعوام الناس في السعي في صلاح شؤون دنياهم كما اُخراهم، حتى بدا وكأنّ الإسلام دين شعائر منفصل عن الحياة والإنسان واحتياجاته انفصالًا تامًّا. بل لم يكتفِ مَن حكم باسم الإسلام بأن كان مطيّة لرئاساتهم ومصالحهم حتى ألصقوا بالإسلام سلوكيّات وصمت المسلمين بالدمويّة في بعض المحطّات والاستباحة في اخرى، بينما النموذج المحمدي يوم فتح مكّة لم يصدح سوى بأنّ يوم فتح مكّة هو يوم “المرحمة”، يومٌ تصانُ فيه “الحرمة”.
وفي عزّ تيه حكّام المسلمين عن الأهداف السامية التي رسمها رسول الله (ص) من تطوّر وتكامل فردي واجتماعي بلغوا فيه أوج الانحطاط، كانت المجتمعات الغربيّة تستفيد من الهدفيّة والبناء حتى على ما توصّل إليه المسلمون من علوم في عصرهم الذهبي لبناء عصرٍ ذهبيٍّ لهم، استغلّوه في نشوء امبراطوريات استعماريّة نهبت البلاد والعباد؛ حتى في لحظة ما خلال حرب البلقان، واجه المسلمون في السلطنة العثمانيّة الرشّاشات الآليّة والمركبات بالسيوف والخيول وبعض البنادق، وفي ما تلا اعيد رسم المنطقة والعالم بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية على إيقاع جشع وتقاسم مصالح الدول المستكبرة.
على الرغم من سنوات مرّت وشهدت اشتداد الظلام والتسلّط في العالم ومنطقة غرب آسيا الغنيّة نفطيًا واستراتيجيًا خاصةً، افتقرت فيها الشعوب وخاصّةً الإسلاميّة منها وعانت التخلّف والعوز والتبعيّة حين تمتّعت البلاد الكبرى المحتكرة للعلم والقوة بخيرات وثروات البلاد، أنار رجلٌ في إيران مشعل أمل للعالم المستضعف أجمع بثورة على الظلم والارتهان والاستلاب، تدعو إلى سيادة الشعوب على مقدراتها والإيمان بإمكانياتها تحت شعار “نحن قادرون”.
الثورة الإسلامية وطروحات الإمام الخميني استندت إلى الإسلام، إسلام التطبيق العملاني والواقعي لأحكام الإسلام التي تهدف لإعلاء شأن الإنسان ومنحه كرامته وعزّته الإنسانيّة، فكان أساس الحركة الخمينيّة تصحيح المفاهيم الإسلاميّة وإخراج تعاليم الإسلام من دائرة الشعائر والمظاهر إلى تقديم نموذج يصنع فيه الإسلام الحياة، حياة كريمة متوازنة لا تنظر للفرد كمستهلك أو عبد، تمنحه حريّة القرار، فكان ما رأيناه من صمود للجمهورية الإسلامية الإيرانية بل تطوّر حتى باتت ركنًا أساسًا اليوم في رسم المشهد العالمي الجديد عوض أن تكون محطّمة كما رغب الغرب والشرق في بداياتها.
في لِحاظ الثورة الإٍسلاميّة المفاهيميّة أوّلًا، نشأت مجموعة صحوات إسلاميّة منها حركة محاصرة ضعيفة في ثمانينيّات القرن الماضي تُدعى المقاومة الإسلاميّة في لبنان: حزب الله، اقتبست من مشعل الأمل الذي أوقده الإمام الخميني، وممّا عبّرت عنه في أدائها المنبثق من الفهم الحركي للمبادئ الإسلامية خلال الأربعين عامًا:
الدين محرّكًا للمقاومة
هذه الحركة الشابة المهتدية بأعلام الإسلام الثوري، خرجت من الحسينيّات والمساجد على وقع نداء السيد موسى الصدر الذي لا يعترف بالحسينيّة “إلّا إذا خرّجت أبطالًا لقتال إسرائيل”. شخّصت تلك المجموعات في أوج الاقتتال الداخلي والطائفي في لبنان أن لا غاية ولا خلاص لشعب لبنان سوى بقتال “إسرائيل” لتحرير الأرض وصون العرض، فتحمّلت مسؤوليّة تنصّلت منها آنذاك الدولة الرسميّة ودول عربيّة كبرى.
الرحمة والحكمة في التعامل مع الملفّات في منطقة متنوّعة ومتوتّرة مقابل النفس الثأري
وكما انتهج النبيّ محمّد المرحمة عند فتحه مكّة، تحمّلت هذه المجموعة المسؤولية بوعي وطني استثنائي –بعيدًا عن كلّ النفس الثأري الذي ما كان ليلام عليه جنوبيّ أو وطنيّ– وقاموا بتسليم العملاء للدولة اللبنانيّة، حرصًا على الاستقرار الداخلي ولعدم تهشيم النسيج الاجتماعي اللبناني الهشّ تاريخيًا وخاصةً آنذاك بمفاعيل الحرب الأهليّة. وبنفس السيرة والمسلكيّات، ترفّعت هذه الحركة الإسلاميّة –التي يحبّ أن يصفها مخالفوها بالراديكاليّة– عن الغوص في وحول وأتون اقتتال أحرق لبنان برمّته ومسّ كلّ بيت، وعضّ على الجراح في أيلول 1997 وحي السلم 2004 بروحيّة “امّ الصبي” المسؤولة أمام ربّها وشعبها عن كلّ حركة وأنّة تأتي بها، وإن كان بها ألم أو ضرّ أو ظلم؛ وكذلك حصل في عزّ الحرب السورية مع الجماعات الإرهابية التي قتلت المدنيّين ودمّرت المنطقة، إلّا أنّ أسراهم وعائلاتهم كانوا مصانين لدى المقاومة ومجاهديها الذين في مشهد طريف حفظوا حتى فاكهة الكرز لأهلها في جرود قاحلة طوال سنوات جهادهم.
مخالفة الركون إلى العصبيّات والشعبويّة
ومع تداعي الأمن الاجتماعي وازدياد الاحتقان المذهبي والطائفي في مرحلة ما بعد القرار 1559، كان خيار هذه الحركة “المغامرة المتحمّسة” كما يصفها مناوئوها بأن تسلك أبعد ما يكون عن الانفعال والشعبويّة والعصبيّات، في الأداء السياسي والخطاب العام والتحالفات السياسيّة والتفاهمات الوطنيّة لأنّ المصلحة العقلائيّة والواجب الإلهي بالنسبة لهؤلاء وصلاح أمر الناس تقتضي مخالفة المنهج الشيطاني الذي يعبّر عنه البريطانيّون بأن “فرّق تسد”، فكانت المسؤوليّة تجاه البلاد كل البلاد بمخالفة الهوى والتعصّب وبمدّ جسور التلاقي والبحث عن المشتركات مع الجميع والتعاون مع كلّ مخلص ولو في مشروعٍ أو تصويت.
المصداقيّة والرساليّة الثوريّة الإنسانيّة والعالميّة
وصولًا إلى تموز 2006، صدق وعد جماعة التكليف الشرعي الذي تعاير به ويعبر عنه أمينها العام بأنّه التصدّي للواجب الإنساني والأخلاقي والوطني: تمّت عمليّة أسر لأعتى عدوّ وأقسى جبّار في المنطقة لتحرير بقيّة الأسرى اللبنانيّين والعرب، وحقّقت نصرًا إعجازيًا لاختلال ميزان القوى الماديّة فباتت شعار ومحلّ تغنّي كل ثائر في العالم من كلّ الألوان والأجناس والعقائد يطمح لكسر هيمنة الاستكبار العالمي والإمبريالي.
الاستثنائية والنموذج الأخلاقي في الأداء السياسي
واصل الحزب صناعة النموذج وتقديم النموذج الإٍسلامي أخلاقيًا حتى في السياسيّة اللبنانيّة المتعارف عليها بأنّها وَسِخة، بل أدخل على قاموسها مفاهيم غريبة عنها كالالتزام الأخلاقي الذي أوصل العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة رغم الحرج مقابل الحليف والعزيز الآخر الذي كان على شفا ترؤس البلاد، إنّما المسؤوليّة الأخلاقية والوطنيّة اقتضت بذل ماء وجهٍ في مكان مقابل تعزيز النموذج في مكانٍ آخر وفاءً بالعهد والالتزام مع حليفٍ أساسيّ وشريكٍ في النصر الكبير عام 2006.
السعة في خدمة المجتمع وتأمين احتياجاته
لم يكن تأسيس المدارس وجامعة المعارف ومساندة المدارس الرسميّة والجامعة اللبنانيّة إلّا ترجمة لإيمان راسخ بأهميّة تأهيل وتعليم وتطوير مجتمع المقاومة ولبنان؛ فاليد التي أطلقت النار على صدر العدوّ بصرت بالحاجات المتنوّعة للناس ووجوب إعداد كفايات لتلبيتها، حتى بتنا نرى مشاريع تدعم البحث العلمي والتعليم العالي تصدر عن حركة مقاومة في ظلّ تقاعس الدولة الرسميّة. الأمر ذاته ينطبق على تأسيس الجمعيات والمؤسّسات الاستشفائية لتغطية حاجات المجتمع صحيًّا حتى بات بعضها مرجعًا وطنيًّا أو حتى إقليميًا في بعض التخصصات. وكان المصداق الأهمّ لدور الجهد الصحّي خلال أزمة كورونا حيث تكاتفت الجهود الوزاريّة التي قادها وزير سمّاه الحزب مع مؤسسّات الحزب للوقوف إلى جانب الناس وحفظ حياتهم صحيًّا أمام وباء أقعد العالم.
التضحية مقدّمةً لتضحيات أكبر
وقد تحمّل الحزب بعد أحداث تشرين 2019 المسؤوليّة تجاه الشعب فيما فضّلت أغلب القوى والأحزاب بإرثها الفاسد دخول مركب ما روّج له على أنّه ثورة شعبيّة. في تلك الأجواء التي لا زلنا في صلبها، لم يكُن عابرًا قول أمين عام الحزب “لم نتخيّل أن يأتي يوم نشتغل بالمازوت والبنزين.. ولو اقتضت الحاجة أن نشتغل زبّالين لأجل شعبنا سنفعل”. هذا القول يختصر مسيرة أربعين عامًا من روحيّة وفهم للإسلام دفعت بهؤلاء إلى تحمّل المسؤوليّة تجاه أنفسهم وبلادهم وإنسانه عند كلّ مفصل مهما بلغ صعوبةً وخطورة، ولو اقتضى مقارعة أعتى قوّة في العالم وتحدّيها ومجابهتها.
اليوم، ولإنقاذ الشعب اللبناني والتخفيف عنه، يعود الحزب مجدّدًا ليضغط على الكيان الصهيوني فتتألّم اوروبا وفي ظهرها أميركا، في لحظة اشتباك عالمي متشعّب ومعقّد. المسؤوليّة اليوم اقتضت على حزب الله التأثير واستغلال إعادة صياغة ورسم مشهدٍ عالميّ بشكل موسّع لأوّل مرّة منذ الحرب العالمية الثانية. هذا الدور ليس وليد الحاجة اللبنانيّة للنفط، بل هو ثمرة نصيبٍ يفوق التوقعات من جانب حزب الله في صناعة اللحظة عبر تأثيره إقليميًا بتراكم مجهودات عسكريّة وإعلاميّة وسياسيّة؛ مجهوداتٌ جعل وقعها أمضى دماء شهداء قادة وأبناء قادة منحت المقاومة المصداقيّة وقدرة تثبيت المفاهيم: القيادة والموقع الذي يخولّهما الإسلام هما تكليفٌ وليسا تشريفًا كما يعبّر الحزب في أدبيّاته.
بعد ثلاث سنوات من الأربعين عامًا على الثورة الإسلاميّة التي ألهمت حزب الله، حدّد قائدها السيّد علي الخامنئي أنّ خطوتها الاولى انتهت، وابتدأت الخطوة الثانية للثورة موجّهًا للشباب توصيات في العلم والاقتصاد والعدالة ومحاربة الفساد والاستقلال والحريّة. في الأربعين عامًا على انطلاق حزب الله ومع تتويجه النموذج الإسلامي الثوري بإنجازاته وأدائه مع المجموعات المتنوعة في المنطقة، لعلّ من أبرز التحديّات تحدٍّ يواجه كل ثورة وحركة ثوريّة: حضور أجيال تحافظ على روحيّة الانطلاقة ومبادئها لتتحمّل المسؤوليّة وتبني المستقبل، فماذا ستكون التوصيات العامّة من قيادة الحزب إلى شعبه وأفراده بعد 4 عقود فاقت الإنجازات والمسؤوليات أيّ توقّع أو فهم ولم تشهد استراحة المحارب ولو للحظة؟