غارات على سوريا. يتكرّر الخبر ولكنّه لا يصبح معتادًا. حجم التعدّي لا يمكن أن يصبح مسألة اعتيادية لا تستوقف الناس. ولأن أمرًا كهذا يستدعي الكثير من المتابعة والاهتمام لمعرفة تفاصيله، ولا سيّما تلك المتعلّقة بأهداف الاعتداء ونتائجه، يسقط الإعلام، من دون تعميم طبعًا، في فخ استعجال بثّ المعلومات التي قد تكون ناقصة أو مغلوطة أو كاذبة، بل التي قد تكون مجرّد مزحة واضحة.
ليل أمس، بلغ الاستعجال مداه الأقصى برواية ما حدث وتحقيق “سكوپ” صحفي ولو انطلاقًا من تغريدة وردت على حساب الكتروني معروف بالمزاح، وهو حساب الناشط أسامة نور الدين. وأكثر من ذلك تضمّن اسمًا يمكن للقارىء، مهما تدنّى مستوى ذكائه، أن يلحظ غرابته الواضحة: “
استشهاد العميد في الحرس الثوري محمد جعفر مطلق اشاعتي في القصف على طرطوس”.
دقائق قليلة بعد التغريدة، ورد خبر عاجل على العديد من المواقع الإخبارية ينقل المزحة المذكورة اعلاه، ينقلها كخبر تم الحصول عليه عبر مصادر، ومنها Lebanon files والنهضة نيوز وصابرين نيوز، وبعدها تناقلته المواقع والحسابات عن بعضها بعضًا ووصل إلى مواقع إخبارية عبرية، حتى أن بعض المواقع نشر مع الخبر صورة لأحد ضباط الحرس الثوري.
الأمر أثار موجة من السخرية المستحقة والضرورية لتنبيه القيّمين على المواقع الإلكترونية إلى ضرورة استخدام القليل من الذكاء فقط في نقل الأخبار، مع انعدام إمكانية مطالبتها بالمهنية وبالمصداقية في نقل الأخبار، فهذه معايير يعجز عنها من ليس أهلها.
يحضرنا في هذا الخضم كلّ “التخبيص” الذي نتعرّض له كمتابعين وكلّ الاستهتار الذي بات سمة العديد من واجهات الإعلام الإلكتروني. يتخطى الأمر التضليل، فالتضليل مقصود أحيانًا وممنهج، أما الاستهتار وانعدام المسؤولية فهو أغبى من أن يُسمّى تضليلًا، وأخطر.
وهنا يجب التمييز بين الشائعات التي يخترعها أحدهم وتنتقل بين الأفراد عبر منصات التواصل، وبين تلك التي ترد كأخبار على المواقع الإخبارية الإلكترونية، وإن كان على الأفراد تحمّل القليل من المسؤولية في عدم نقل أو نشر أيّ خبر غير موثوق، فمسؤولية المواقع مضاعفة لأنّها، شئنا أم أبينا، تشكّل بالنسبة للجمهور مصدرًا بحدّ ذاتها.
وجب على “مطلق اشاعاتي” الذي صار بالأمس اسمًا لعميد في الحرس الثوري أن يكون اسمًا رسميًا للمواقع الإخبارية التي نقلت خبر مقتله دون أن يلتفت القيّمون عليها لمعنى الإسم، ودون أن يستوقفهم وضوح المزحة في التغريدة. فالوضوح يسقط عنهم عذر السهو الذي أدى إلى نشر الخبر. طيب، ماذا لو كان الاسم مختلفًا، كأن يرد في تغريدة أو منشور خبر مغلوط بأسماء واقعية؟ كان هذا الإعلام نفسه سيتّهم سوريا وإيران بعدم الإعلان عنه ومحاولة التعتيم على حدث لم يحدث. بكلام آخر، أدّت سهولة انكشاف المزحة إلى تراجع المواقع الإلكترونية عن نشرها وتداولها. ماذا لو لم تكن سهلة الانكشاف؟ كانت ستتحول إلى “خبر حقيقي” يجول في أروقة الفضاء الإلكتروني ويحتلّ حيّزًا من النقاشات الفارغة ويتم تحليله وتأويله والبناء عليه. كنا سنرى اعلام “الفرنك الا ربع” وواجهاته وهم يشمتون بمقتل قياديّ في الحرس الثوري، وربّما كان سيشكل مادة لبرامج “حوارية” أو “مونولوغ” يقوم به إعلاميون محترفون! المفزع في الفكرة يكمن في كون هذا الأمر حدث فعلًا ولمرّات لا تُحصى، مع فارق بسيط وهو أن الأسماء أو الأماكن التي وردت في أخبارهم كانت واقعية.
يتساءل المرء هنا: كم مرّة بنى هذا الإعلام سردياته على أخبار لم تحدث وعلى وقائع لم تقع؟ كيف يمكن الوثوق بالإعلام الإلكتروني الذي سقط في “مزحة” فكشف عن كلّ بنيانه العائم فوق رمال من كذب، ومن مصادر غير موجودة؟ ما هي الجهة التي يتوجّب عليها المحاسبة على الأقل بمعيار المهنية؟ متى ننتهي من عبارة “نقلت مصادر…” التي تُفتتح بها معظم الشائعات والتلفيقات والأضاليل؟ ومتى نبدأ كمتابعين في محاكمة ما يردنا من أخبار وإهمال غير الموثوق والمؤكد منها قبل التسابق إلى نشرها؟