لم يكن عام 2020 عامًا عاديًّا على العالم بأجمعه، ولم يبخل هذا العام بأحداثه غير الطبيعية على لبنان وشعبه، أحداث وانهيارات وانفجارات أطاحت بجوهر الشرق، وأعادته إلى عصور ما قبل الحياة، وجعلت من اللبناني شعبًا معذبًا بأشد أنواع الذل والعذاب والتشرد.
وفي نظرة عابرة إلى ما ألمّ بهذا البلد من كوارث، تجد في مقدّمتها وعلى رأسها حادثة أصابت روح الوطن قبل كيانه، إذ لم يكن عصر الرابع من آب من هذا العام كغيره من الأيام، ولم يكن ما قبل السادسة عصرًا يومها كما بعدها، والكارثة التي حلت بهذا البلد حينها غيرت وجهه للأبد وجعلته محط أنظار الكوكب بأسره.
الألم والمعاناة: القاسم المشترك
عامان على الانفجار الذي أوقع دمارًا هائلًا في مساحات شاسعة من بيروت، وتسبب باستشهاد أكثر من 200 شخص، من بينهم ستة أطفال، وفقًا لإحصاءات اليونيسف، وإصابة أكثر من 6500 شخص بجراح من بينهم ألف طفل.
ومع التدمير الحاصل في المباني والممتلكات والمؤسسات، فقد الكثير من اللبنانيين مساكنهم ووظائفهم، فقد قدر عدد الوحدات السكنية المتضررة بـ 50 ألف وحدة سكنية، وبات وقتها نحو 300 ألف شخص بلا مأوى، وقدرت الخسائر المادية الناجمة عن الانفجار بما بين الـ10 والـ 15 مليار دولار أميركي، الأمر الذي دفع اللبنانيين لبذل كل ما لديهم وأقصى ما عندهم لتأمين مقومات الحياة الأساسية، في ظل أسوء أزمة اقتصادية وصحية واجتماعية يشهدها تاريخ لبنان.
هذه المعاناة التي حلت بأبناء هذا الشعب، لم تفرّق بين انتماءاتهم، لم تستثن أحدًا، ولم ترحم أحدًا، عصفت بالكبير والصغير، بالغني والفقير، لم تسأل عن طائفة ولم تغطِّ مذهبًا دون آخر، زفّت الكثير منهم شهداء على أرض وطن بذل أبناؤه الكثير لأجله وذاقوا مرارة الدهر للبقاء في أحضانه وبين ربوعه. وما زال اللبنانيون على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم وبعد مرور عامين على هذه المأساة الوطنية يعانون من رواسب هذا الألم الذي حل بهم والذي سيبقى ربما للأبد في ذاكرتهم كما في قلوبهم.، وهذا الألم هو نفسه، الذي جمع اللبنانيين ووحّدهم ليضمدوا جراحهم بأيديهم وليجعل منهم صفًا واحدًا مقابل سلطة الإجرام التي على يديها، وبسبب فسادها وجورها، حل ما حل بهم.
وما زال الأمل واحدًا
رغم مشاهد المأساة والموت والدمار، إلا أن ما حدث في ذاك اليوم المشؤوم أظهر صورة جديدة عن حياة أبناء هذا الوطن وحقيقة تعايشهم، هؤلاء الذين حملوا بعضهم بعضًا على الأكف، وأسعفوا جراحهم، وأزاحوا الدمار عن أجساد بعضهم بعضًا، وتهافتوا من كل ناح وصوب علهم يقدمون ما عجزت الدولة المنهوبة عن تقديمه وتأمينه، لم يبادر أي منهم لسؤال الآخر عن طائفته أو مذهبه، أو أن يطلب منه إبراز إخراج قيده ليرى إن كانت انتماءاته وسياسة حزبه تسمح له بإغاثته، بل كان الجرح واحدًا والدم واحدًا والنخوة واحدة والإنسانية واحدة.
وفي هذا الإطار، تكثر الشهود والأمثلة التي وثقتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي سطر البعض من خلالها بطولات إنسانية بكل ما للكلمة من معنى، تجلت في إنقاذ أرواح على شفير الموت، أو كشف مصير بعض المفقودين الأحياء، أو إنقاذ أطفال رضّع من بين زجاج الدمار، وغيرها من المشاهد التي ترفع الإنسانية قبعتها لها.
تعود اليوم الذكرى من جديد، إذ ها نحن نقف على أعتابها، ونراقب ما قد حل ويحل مجددًا بما تبقى من أثرها، ومع كل انهيار ومشهد يعود الجرح ليُفتح مجددًا، ولم يبقَ لدى أهالي الشهداء والجرحى سوى أمل واحد، عاش اللبنانيون ولا زالوا يعيشون به، ألا وهو أن تنتقم روح الشعب يومًا من جور وظلم أحقر سلطة سياسية عرفها الكون، دمرت لبنان سابقًا ولا زالت تسعى كل يوم إلى تدميره أكثر، فهذه الأرض التي أنبتت خيرها وعزمها في قلوب أبنائها، فافتدوها بدمائهم ولا زالوا، سيأتي عليها يوم تكون جذور الفساد قد اقتلعت منها وذهبت أدراج الرياح والذل هي وأسيادها ومن وقف معها وصفّق لها.