مع استقالة أعضاء كتلة “التيار الصدري”، البالغ عددهم 74 نائبًا، من البرلمان العراقي في 12 حزيران/ يونيو الفائت، ظن كثيرون أن الأزمة السياسية التي طبعت الأشهر الماضية، بإسقاطاتها “التعطيلية” على صعيدي انتخابات رئاسة الجمهورية، وتشكيل الحكومة، في طريقها إلى الحل مع مسارعة الخصوم السياسيين للتيار، لا سيما ائتلاف “دولة القانون”، المنضوي تحت لواء ما يعرف بـ “الإطار التنسيقي”، إلى استغلال تحول الأكثرية البرلمانية إليه بلا منازع وتبني ترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة العراقية الأولى بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة.
الأزمة السياسية التي حملت في ظاهرها صراعًا سياسيًا بسمات دستورية بين الكتل النيابية حول “الكتلة البرلمانية الأكبر”، وفي باطنها صراعًا موازيًا بسمات شخصية يحكمها إرث من النزاع المستفحل بين زعيم التيار السيد مقتدى الصدر، ورئيس ائتلاف “دولة القانون”، ورئيس الحكومة العراقية الأسبق نوري المالكي، دخلت في الأيام القليلة الماضية طور الانتقال من المؤسسات الدستورية إلى الشارع على وقع اقتحام أنصار التيار الصدري مقر البرلمان العراقي، في احتجاجات هي الأضخم منذ إجراء الانتخابات التشريعية في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2021، بهدف قطع الطريق على انعقاد جلسة نيابية كان من المقرر أن تخلص إلى تكليف السوداني برئاسة الحكومة خلفًا لمصطفى الكاظمي، الأمر الذي جوبه بتنظيم تظاهرات مضادة.
أنصار الصدر داخل البرلمان: رسائل لخصوم الداخل
وتتفاوت التقديرات بشأن دوافع وآفاق التطورات الأخيرة على الساحة العراقية، خصوصًا وأنها أعقبت مساعيَ حثيثة قادها زعيم “التيار الصدري” لتشكيل تحالف برلماني عابر للحالتين المذهبية والقومية، ضم إليه قوى سياسية محسوبة على المكونين الكردي، والسني، كـ “الحزب الديمقراطي الكردستاني”، بزعامة مسعود البرزاني، و”تحالف تقدّم” بزعامة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وذلك بهدف تشكيل حكومة أغلبية، خلافًا لما سارت عليه قواعد تشكيل الحكومات العراقية السابقة. فـ “السياسي المعمّم”، كما يحلو للبعض أن يسميه، وقبل السير في خطوة استقالة أعضاء كتلته من مجلس النواب، خاض معارك عدة على الجبهتين السياسية والدستورية لحل أزمتي الشغور الرئاسي والحكومي من دون تحقيق نتائج تُذكر. فمطالب الصدر لم تنحصر في تغيير قاعدة التركيبة الحكومية المعمول بها منذ أعوام بصورة تفضي إلى تهميش خصومه في “الإطار التنسيقي”، بل انسحبت على جملة مطالب طالت قواعد وأعراف انتخابات رئاسة الجمهورية. فعلى الجبهة الأولى، لم يوفق الصدر في فرض تشكيل حكومة أغلبية برلمانية لأسباب متصلة بدقائق تفاصيل الواقع السياسي العراقي المتشابك عرقيًا، وطائفيًا. وعلى الجبهة الثانية، حسمت المحكمة الاتحادية مؤخرًا النقاش لناحية التأكيد على ضرورة انتخاب رئيس الجمهورية بنصاب الثلثين، خلافًا لرغبة الصدر.
ولتوضيح دوافع احتجاجات أنصار الصدر، التي وصلت إلى حد اقتحام مبنى السلطة التشريعية، ووصول المحتجين المؤيدين للتيار الصدري إلى داخل ما يعرف بـ “المنطقة الخضراء” للمرة الثانية خلال شهر، اعتبرت صحيفة “ذي اندبندنت” أن “الزعيم الشيعي الثوري” يرغب في “توجيه تحذير إلى منافسيه من مغبة التصعيد المحتمل” مع تياره في حال تم تكليف السوداني، لرئاسة الحكومة الجديدة، وهو المحسوب على ائتلاف “دولة القانون”، بزعامة المالكي، أحد أشرس خصوم الصدر، ولا سيما بعد انتشار مقاطع صوتية مؤخرًا نُسبت للمالكي تحدث فيها عن مخطط خارجي يدعم وصول “الصدريين” إلى مفاصل الحكم في البلاد. وذهبت الصحيفة البريطانية إلى أن “احتلال أنصار الصدر للمجلس النيابي انطوى على درجة ما من المجازفة الخطرة، وبدا أشبه بالاستيلاء على السلطة”، مشيرة إلى أن انتقال بعض المحتجين إلى أحد المباني القضائية، بعد البرلمان، يحمل دلالات في هذا الاتجاه.
بدورها، توقفت صحيفة “نيويورك تايمز” عند ردة فعل مواقف القوى السياسية المناوئة لـ “التيار الصدري”، أو ما يعرف بـ “الإطار التنسيقي”، الذي يضمّ كتلتي “دولة القانون” و”تحالف الفتح” وفصائل المقاومة العراقية المقاتلة مِثل “كتائب حزب الله العراق” ومستقلّين، مشيرة إلى وجود تباينات في مواقف تلك القوى بين من أبدى استعداده للتعامل “السلمي” مع مطالب المحتجين، وبين من دعا إلى تبني مقاربة “أكثر صدامية” في وجه هؤلاء، قبل أن يستقر الأمر على تنظيم تظاهرات مضادة. وتتخوف بعض الأوساط السياسية الغربية من أن عودة مشهد التظاهرات إلى الشارع قد يسفر عن تحول الأزمة السياسية إلى صراع أهلي دموي عنيف، في ظل ظروف إقليمية ودولية يحكمها انتظار مآلات المفاوضات النووية بين القوى الكبرى وطهران، وتصاعد سخونة “الكباش” الغربي – الروسي على امدادات الطاقة العالمية. وتعتبر تلك الأوساط أن انزلاق الأمور نحو انقسام الشارع العراقي، بين جهات متقابلة مسلّحة، ينذر بالأسوأ داخل بلد يعد سادس أكبر مصدر للنفط في العالم. وتستذكر الأوساط نفسها أن اغتيال واشنطن قائد “فيلق القدس” السابق قاسم سليماني مطلع العام 2020، أسهم في غياب “ضابط إيقاع” التباينات داخل القوى السياسية العراقية المحسوبة على المكون الشيعي، في تباعد المسافة بين “التيار الصدري”، وبعض التيارات السياسية المقربة من طهران، ملمحة إلى أن ترشيح السوداني، الذي سبق أن شغل مناصب وزارية في حكومة المالكي عام 2010، لتولي رئاسة الوزراء، يأتي في سياق ترسيخ هذا التباعد.
هل أخطأ الصدر في حساباته البرلمانية؟
يلفت محللون غربيون إلى أن زعيم “التيار الصدري” أساء تقدير الموقف حين دعا نواب كتلته إلى الاستقالة مطلع الصيف الجاري، واضعين إياه في خانة الرد الانفعالي على قرار المحكمة الاتحادية بشأن تحديد نصاب انتخاب رئيس الجمهورية بأكثرية الثلثين.
وتذهب صحيفة “نيويورك تايمز”، إلى أن الصدر كان يحدوه اعتقاد بأن خصومه السياسيين سيطلبون منه العودة عن قرار الاستقالة الجماعية لنواب تكتله “سائرون”، مشيرة إلى أن ما حصل هو العكس، حيث سرعان ما عمدت قوى تكتل “الإطار التنسيقي” إلى شغل عدد وازن من مقاعد النواب المستقيلين، وفقًا لأحكام القانون الانتخابي العراقي، وهو عدد قُدّر بنحو 40 مقعدًا، ليصبح العدد الإجمالي لنواب تلك القوى 130 من أصل مقاعد البرلمان الـ 329، بما يعنيه ذلك على صعيد حسم المعركة على تحديد هوية “الكتلة الأكبر” داخل مجلس النواب. وتجزم الصحيفة بأن زعيم “التيار الصدري” أخفق في قراءة المشهد السياسي العراقي الراهن بدقة، باعتبار أنه لم يعد قادرًا على التراجع عن خطوة الاستقالة الجماعية لنواب تياره. ووفق الصحيفة الأميركية، فإن الحسابات السياسية والبرلمانية الخاطئة للصدر لم تترك أمامه من خيار سوى تسيير جحافل من الجماهير المؤيدة له، وتوظيف تلك الجماهير في تعطيل مسار تشكيل حكومة جديدة، والمطالبة بانتخابات تشريعية جديدة تعيده مرة أخرى إلى السلطة.
على الصعيد نفسه، ترى مجلة “ذي إيكونوميست” أن قرار الصدر بالانسحاب من البرلمان “لم يكن عقلانيًا، وذا مغزى”، مشدّدة على أن النتيجة تمثلت بتخلّي الأخير طواعية عن نفوذه وحضوره الوازن في مجلس النواب. هذا، وتنقل المجلة عن مصدر عراقي مسؤول قوله إن خطوة الصدر تعد “محض جنون”، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أنها سوف تمنحه مزايا تكتيكية محدّدة بحيث سيكون أكثر تحرّرًا من قيود السلطة، قياسًا بمنافسيه، لكونه لم يعد يحظى بتمثيل نيابي. ويكمل المصدر المسؤول حديثه لـ “ذي إيكونوميست” بالإشارة إلى أن خطوة الصدر البرلمانية حملت رسائل “عنفية”، عكستها الاحتجاجات الأخيرة، معتبرًا أن الصدر بصدد انتظار “الإطار التنسيقي” لتشكيل حكومة، قبل أن يعمد إلى الزج بمناصريه مجددًا في مسيرات احتجاجية على سياسات تلك الحكومة إذا لم تتلاءم مع تطلعاته.
مفاعيل الأزمة السياسية على خطوط التصدعات المذهبية والإثنية
في حقيقة الأمر، يتبارى المراقبون في خلع التوصيفات على مشهد الصراع بين “التيار”، و”الإطار”، بين من يعتبره “شجارًا بين فاسديْن”، أو “نزاعًا داخل نخبة تفتقد الشعبية بصورة متزايدة”. وبين هذا وذاك، يشي الوضع القائم على الأرض برغبة الطرفين في تجنب إعادة البلاد إلى مربع العنف، لاعتبارات تتعلق بأهمية الحفاظ على مكتسباتهما داخل النظام السياسي الحالي، وتجنب إثارة انقسامات داخل النسيج المجتمعي العراقي، سواء داخل المكون الواحد، أو حيال المكونات الطائفية والقومية الأخرى.
ويرجع البعض مشهد التناحر السياسي بين الأفرقاء العراقيين إلى انتخابات العام الماضي، بالنظر إلى كونها لم تتمخض عن إجماع وطني، سواء لناحية اختيار قيادة سياسية جديدة للبلاد، أو لناحية السير في الإصلاحات المطلوبة على أكثر من صعيد. من جهته، يشير مدير “مشروع مبادرة العراق”، في “مجلس الأطلسي” عباس كاظم إلى أن ما يجعل المواجهة بين القوى الداعمة للمالكي من جهة، والقوى الداعمة للصدر من جهة أخرى، على درجة عالية من الخطورة، يكمن في أنها واقعة ضمن المكوّن (المذهبي) الواحد، وعلى الجهة المخولة التحدث باسم هذا المكوّن، موضحًا أنه درجت العادة في العقود الماضية على وقوع الخلافات بين الطوائف أو المكونات العرقية والمذهبية المتنوعة، كحالة “الاصطفاف السني – الشيعي” في مرحلة ما بعد الغزو الأميركي، أو مرحلة “الصراع العربي- الكردي” في عهد النظام السابق. ويسهب كاظم في شرح أبعاد خطورة “التقسيمات الجديدة” في المجتمع السياسي العراقي، لافتًا إلى أنه لا توجد حتى الساعة، أي شخصية عراقية شيعية أو سُنية أو كردية قادرة على كسب تأييد المجموعات الدينية والعرقية والسياسية في العراق، على تنوعها، إضافة إلى العمل على تلبية مطالبها في الإصلاح.
الصدر: من مقاومة الاحتلال إلى محاربة الفساد؟
وبالعودة إلى تاريخ الصدر وأسرته في الحياة السياسية، فقد أخذ الرجل على عاتقه، وهو سليل عائلة دينية عريقة في العراق، ونجل أحد أبرز معارضي النظام السابق، دورًا رياديًا في مقاومة الاحتلال الأميركي بعد العام 2003، قبل أن يتحوّل عن النهج العسكري بهدف الانخراط في الحياة السياسية، رافعًا شعار “محاربة الفساد”.
ومن منظور مراقبين للشأن العراقي، فقد أتقن نجل المرجع الشيعي الراحل محمد صادق الصدر، ومؤسس “حزب الدعوة”، لعبة مخاطبة الجماهير واستثارتها بهدف توظيفها في الشارع لأغراض سياسية. وفي الفترة التي سبقت تفجر التظاهرات الأخيرة، والتي تلت “الانسحاب البرلماني” للصدر، تمكن الأخير من تحريك مشاعر التهميش لدى قواعده الشعبية، وحشدهم في الشارع بهدف حث الأطراف المشاركة في السلطة إلى التسليم بمطالبه، أو النظر فيها على أقل تقدير.
في المقابل، ثمة من يشكك في مزاعم الصدر بشأن محاربته للفساد، من باب الإشارة إلى تولي أعضاء من “التيار الصدري” حقائب وزارية عدة في أكثر من حكومة، بعضها في عهد نوري المالكي نفسه، الذي يتهمه أنصار الصدر بـ “الفساد”. فقد تبوأ “الصدريون” في فترات سابقة مناصب رفيعة في وزارتي الدفاع، والداخلية، وعدد من الشركات الحكومية في قطاع النفط، والكهرباء، فضلًا عن البنك المركزي. وفي هذا السياق، تلفت “ذي إيكونوميست” إلى أن “معسكر الصدر لا يستطيع تمرير مزاعمه بشأن الخلفيات الأخلاقية عالية السقف لمواقفه السياسية”، موضحة أن “الأزمة السياسية في العراق لا تنبع من النقاش حول أفضل نظام حكم ممكن، كما يتصوّر البعض”، بقدر ما تتعلق بـ “التهافت على الثروة والمحسوبية” من قبل الأطراف السياسية. وتتابع المجلة البريطانية أن الوزارات التي شغلتها شخصيات محسوبة على “التيار الصدري”، تعج بالفساد، والرشاوى، مشيرة إلى أن الصدر نجح في تكوين شبكات واسعة من “الزبائنية السياسية” التي تعتمد في تمويلها على الإيرادات الحكومية. واعتبرت المجلة أن تصويت أعضاء “الكتلة الصدرية” على قانون “برنامج الأمن الغذائي” في حزيران/ يونيو الماضي، وتضمينه بنودًا تتيح توظيف الآلاف في القطاع العام يندرج ضمن انتهاجه سياسة “الزبائنية”، وتوزيع المناصب والوظائف على مناصريه.
المطالب الدستورية للصدر
وللوقوف عند مطالب المحتجين المؤيدين للصدر، تنظر مصادر عراقية إلى أن تلك المطالب خطيرة للغاية، وربما ستؤدي إلى إثارة الشارع العراقي الأوسع، لكونها تقترح إدخال تعديلات جذرية على بنية النظام السياسي العراقي. ومن هذه المطالب التي يقترحها هؤلاء، الدعوة إلى تعديل الدستور لتغيير نظام الحكم في العراق من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، وتعيين حكومة تصريف أعمال ترعى تعديل الدستور، إلى جانب تنظيم انتخابات مبكرة وإقرار آليات تضمن محاسبة المسؤولين الفاسدين. ومما يطرحه أنصار “التيار الصدري” إقرار قانون جديد للانتخابات. وفي هذا الصدد، يهمس مصدر عراقي رفيع، بأن “الطريقة الوحيدة لفهم خطوة انسحاب الصدر من البرلمان، هي تفكيره بإسقاط النظام السياسي”.