الأزمة المفتعلة في لبنان حول قضية المطران موسى الحاج والتي تخطّت حدودها القانونية الى السياسية والشعبية ومن ثم الطائفية لم تكن جديدة، بل هي ضمن مسار تخطيطي قديم يندرج ضمن سياسة العزل والتفرقة والانقسام في البلد.
ما يحصل من تسلسل أحداث يُحدِث نقاشًا انقساميًا حادًا في البلد لمسائل يفعلها أو يطرحها البطريرك بشارة الراعي يدفع البعض للسؤال: لماذا يأخذ البطريرك الراعي على عاتقه المواجهة مع القضاء بقضايا بهذا الحجم والبُعد والتي يُفترض أن يكون عليها إجماع وطني قبل القانوني؟ ولماذا يحاول البطرك الراعي أن يأخذ على عاتقه أيضًا ما يُوحي بسلخ المسيحيين داخل وطنهم بأخذ مواقف حول قضايا حساسة تُشعِل المواجهة بينهم وبين بيئات المجتمع اللبناني الأخرى وتقسمه الى مجتمعين؟
أين ذهبت الشعارات حول استقلالية القضاء؟ وكيف تحوَّل موقف الحياد الى موقف متطرف؟ مَن يحاول أن يُقنِع الناس بأن حل الأزمة الاقتصادية بالتطبيع؟ مَن يصنع للبنان أكثر من عدو؟
أما السؤال الأهم فهو: مَن يورط البطريرك باتخاذ هكذا مواقف وبدوره يُورِّط المسيحيين؟
ما حصل خاصة في الأيام الأخيرة من مواقف وتراشق اتهامات واصطفافات طائفية وسياسية كان ذروته تجمُّع الديمان وما تضمنه من تصريحات وهتافات من مقر له قيمة وطنية كبرى، يراه مراقبون أنه لا يُشبه خط بكركي التاريخي، فالبطريرك عليه تصويب الأمور قبل أن تذهب باتجاهات غير محسوبة، خاصة وأن هذا الخطاب من الممكن أن يُؤجج الأحقاد الطائفية في بلد لم يَخرج مِن الحرب الأهلية، هذه الأحقاد التي يريد البعض إسقاطها على الخيارات الوطنية.
بهذه القضية، قانون مقاطعة العدو الإسرائيلي واضح لا نقاش فيه، وكل ما يأتي منه يكون بدائرة الشبهة، فاللبنانيون الموجودون داخل الأراضي المحتلة محكوم عليهم قضائيًا في لبنان بتهمة العمالة، يعني هُم عملاء وليسوا جالية لبنانية كما يحاول البعض التلميح له. لذا هذا عمل قضائي إن لم نقل وطني أيضًا، من غير المسموح أن ينسحب على موقف سياسي يُورِّط المسيحيين.
ومن هذا المنطلق يعتبر مراقبون أنه يجب إعادة التوازن لموقف بكركي، فالقصة ليست قصة بطرك وإنما الكنيسة تعيش حالة انقسام يجب إنهاؤه والتأكيد من جديد على هويتها الوطنية والإنسانية.
ما يساعد على تعزيز هذا الواقع، الأحزاب السياسية المسيحية الوازنة التي تتخذ مواقف سياسية شعبوية مصلحية آنية وتتبنى خطابًا سياسيًا له تداعيات خطيرة على الواقع المسيحي. فبعد ١٧ تشرين الأول عام ٢٠١٩ ارتفع أكثر خطاب هذه الأحزاب لتخويف البيئة المسيحية وإيهامها بأنها مُستهدفة ووضعها بمواجهة مع باقي شركاء الوطن. فهذا الخطاب أليس هو نفسه مَن يستهدف المسيحيين ويعزلهم؟ ألَم تعِ هذه الأحزاب خطورة ذلك والى أين تأخذ هذه البيئة؟ وهل مصلحة المسيحيين في لبنان بالمواجهة مع طرف آخر والعزلة أم بالاندماج داخل المجتمع؟
من هنا يمكننا القول إنه إذا استمر الأداء بهذا الشكل، فإن الطرف الآخر الذي يريدون وضع المسيحيين بالمواجهة معه لن يسمح بوجود شرخ من هذا النوع ولديه تجارب كثيرة تؤكد قدرته على استيعاب هكذا نوع من المواقف من أجل الحفاظ على العيش المشترك.
في معركة الوعي، لا بد أن تنتصر الحقيقة على الأوهام، وكل ما يفعله العدو الإسرائيلي لأنه يعلم جيدًا أنه لو طبّع مع العالم العربي كلّه ولم يستطع التطبيع مع لبنان كل الاتفاقات لن تُفيده بشي لأن توازن الرعب تُجسِّده المقاومة. والجميع يعلم جيدًا أنه في زمن المقاومة وإنجازاتها وبعد كل تضحياتها وقوّتها لا يَحلم أحد في لبنان بالتطبيع مع العدو.