معركة التحرُّر الكُبرى

لبنان، صنيعةُ سايكس-بيكو، ونظرًا لموقعه الاستراتيجي في حوض المتوسّط، فتح شهيّة القوى الدولية والاقليمية بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد خروج الاحتلال الفرنسي منه، أصبح لبنان ساحةً للصراع الاقليمي تقوده الدول الكبرى، أبرزها أميركا وبريطانيا. كانت السعودية في تلك الفترة مركز الارتكاز والتنسيق لتلك الدول، وراعية المشاريع “الامبريالية” التوسّعية، وهي التي بدأت تنعم باحتياطيّات النفط وعائداته في ذلك الحين.
وقد أضحى النفط وسيلة لتراكم رأس المال، بالتوازي مع كونه وسيلة للهيمنة السياسية على الدول الفقيرة.

قسّم الاستعمار منطقتنا مطلع القرن العشرين على أساس حيثيّاتها الهويّاتية الاجتماعية، والنفطية! بمعنى أنه كان الهدف إشغال الشعوب فيها بصراع هُويّاتي اجتماعي صلب، يفتح المجال للدول المُهيمِنة لتنفيذ مشاريعها من دون عوائق، وتسيطر على القرار السياسي لمسار إنتاج النفط.

وفي سلسلةٍ تاريخيّة متواصلة، انقسم اللبنانيّون منذ ما قبل “لبنانهم” هذا إلى قسمَين: قسمٌ انصاع لإرادة الاستعمار وتخلّى عن هويّته “القيَميّة” والوطنية، وقسمٌ آخر هبّ لِنُصرة تلك الهُويّة ولاستعادة أمجاد مكنونها الهويّاتي القِيَمي الذي لطالما تميّزت به حضارتنا منذ الزمن الأوّل.

شكّل النفط في زمن العولمة أداةً لتركيع الشعوب، ولا تكاد بقعة نفط في العالم لا يُسيطر على قرارها قوى الرأسمال العالمي، ومن فوقها “الإمبرياليّة” الفتّاكة. وأصبح النفط يشكّل مفتاح الهيمنة، وحقوله تشكّل البقعة الجاذبة لأطماع الوحوش الإنسانية الضارية، وقد كان لمنطقتنا النصيب الأكبر من ذلك المسار، حيث تختزن احتياطات النفط الكُبرى، والتي تم اكتشافها منذ حوالي القرن. أصبحت إرادة شعوبنا مرهونة بتلك البراميل العابرة فوق أمواج البحار، واستَلَبَت الامبراطورية منها قرار تحديد المصير والمسار.

عندما طَرَدَت المقاومة الاحتلال الاسرائيلي من لبنان عام 2000، وخطَت بذلك الخطوة الأولى نحو التحرُّر بعد نيل الاستقلال بالمعنى العسكري، كان من الطبيعي التكهُّن مبكرًا، أن العدو ومن خلفه لن يكونوا مكتوفي الأيدي يتفرّجون علينا ونحن ننتزع استقلالنا، ولن يتركوا طريق التحرّر الشاق سهلًا خاليًا من العوائق والانحدارات.

بعد التحرير اختلف الأمر، فالخطوة الأولى أُنجِزَت، بقي مسارٌ طويل ربما يكون أصعب، وهو مسار “ناعم”، شامل، سياسي اقتصادي واجتماعي. لكن في الأساس، إلى جانب أدوات المواجهة، يستند ذلك المسار في المعنى الاستراتيجي الى القوة العسكرية، إذ بدون تلك القوّة لا وقت للأعداء كي يكيدوا لنا المكائد الناعمة، يكفيهم أن تقلع طائراتهم وتسحق ما تبقّى لنا من مقدّرات. أيضًا شكّل النفط مرتكزًا أساسيًا في عملية الضغط السياسي.

وقد قرّرت “اسرائيل” مفاوضتنا على الحدود البحرية، ورَعَتها “الامبراطورية” الاميركية بشكل كامل، ذلك لأن لبنان يمتلك قوة أصبحت تمثّل جزءًا من معادلة الشرق الأوسط، ولا يمكن تخطّيها بتاتًا. لكن الأعداء أصرّوا على المكر والخداع والإصرار على سياسة الحصار والتجويع.

يُعتبَر لبنان مثالًا صغيرًا عما تفعله قوى الاستعمار والهيمنة الرأسمالية العالمية، إذ لا تسمح لأحد بالاستفادة من موارده الطبيعية (وغير الطبيعية) ومقدّراته. وقد علّمنا المسار التاريخي الحديث، أن هذه الإمبريالية لا تفهم إلا لغة القوة، ولو كانت مواجهتها مكلفة وذات تبِعات ضخمة، وأبرز مثال على ذلك “إيران” التي تصطفّ الوفود الغربية اليوم عند أعتابها ساعيةً لإنجاز الاتفاق النووي معها، والذي تريده دول الغرب شاملًا، لتستفيد منه من الناحية الاقتصادية والتجارية فيما بعد. إيران نموذج عن البلد المستقل، والإنسان المتحرِّر الذي يملك قراره الاستراتيجي بيده، ويستطيع متى يشاء، وكيف يشاء الاستفادة من مقدّراته وموارد قوّته الماديّة والمعنوية.

مسيّراتُ التحرّر
أعلن الامين العام لحزب الله، في خطابٍ تاريخيّ، أن المقاومة ستدافع عن الثروة النفطية في البحر اللبناني، ومستعدّة للذهاب بعيدًا (جدًا) للدفاع عن تلك الثروة، والمعادلة الآتية هي منع العدو من الاستفادة من ثروة فلسطين البحرية إذا بقي الفيتو المعادي يمنعنا من استخراج ما يختزن بحرنا من ثروة توازي مئات مليارات الدولارات طالما أنها تشكّل الأمل الوحيد للازدهار واعادة الحياة إلى شكلها الطبيعي، لا بل والمتقدّم.

هنا يكمن أصل المشروع التي تتبنّاه المقاومة منذ انطلاقتها، وما المسيّرات التي حلّقت فوق “كاريش” منذ أيام، إلا رسالة على وضوح الرؤية لدى قيادتها، وقد خرج من بعدها قائد المقاومة معلنًا أننا أمام مرحلة جديدة من تلك المواجهة الشاملة، وأن خيار استعمال القوة، وقلب الطاولة على رؤوس جميع المتآمرين، سيكون الخيار الأنسب في حال الإصرار على الحصار المفروض علينا ومنعنا من النهوض واتّخاذ القرارات التي تصبّ في مصلحة الوطن ومجتمعاتِه وناسِه، والاستفادة من موارده الطبيعية.

وقد انشغل العدو الاسرائيلي، خلسةً، في دراسة خياراته المطروحة بمواجهة السقف العالي الذي وضعته المقاومة أمامه، وهو يعرف جيدًا أن الزمن الذي كان يهدّد فيه ويتوعّد منفردًا قد انتهى، وأنه محكوم اليوم بمعادلات مرسومة بدقّة، رسمتها له المقاومة وأجبرته على الانقياد لها والعمل تحت سقف خطوطها الحمُر.

الكيان الصهيوني، وكيل الامبراطورية المُتآكِلة التي بلغت سِنّ عجزها مبكرًا، هو وديعة الغرب في منطقتنا. وبالتالي لا يصحّ تقسيم المواجهة في هذا المضمار، فالدفاع عن الموارد النفطية هو دفاع عن الذات في وجه كل دول الرأسمالية التي ترى الانسان أداةً لمراكمة ثرواتها، ومنع “إسرائيل” من استخراج الغاز الذي تسرقه من البحر الفلسطيني، إنما يدخلنا في قلب معادلة الموازين المحتدمة عالميًا.

لنتخيّل جميعًا أن الفكرة نشأت منذ عقود على نظريّة “لبنان في ضعفه”، وما يتبعها من خيار تسوُّلي يركع عند أعتاب القوى الكبرى. أما لبنان اليوم، فهو لاعبٌ “عالمي” وليس اقليميًّا، وفي لحظة تاريخية يرتسم من خلالها شكل العالم الجديد. فـ “أوروبا” اليوم بحاجة إلى “قارورة” غاز كَي تَقي مواطنيها قساوة البرد في الشتاء القادم. وهذا زمن تحوّلي علينا أن نكون على قدرٍ من الوعي كي نحجز لنا موقعًا متميّزًا فيه.

في معركة “التحرّر الكُبرى”، أُرسِلَت المسيّرات الثلاث. افتتحت تلك الـdrones مرحلة المواجهة الأخيرة في طريق التحرّر الكامل والاستقلال النهائي، والذي عبّر عنه سماحة السيد بـ”آخر الخطّ”. خطٌّ خيضت عبره أشرس المعارك، وجُرّبت جميع أنواع المؤامرات، وراح في سبيله الشهداء. خطٌّ كانت الغلبة فيه دائمًا للمقاومة وشعبها، وكانت خيارات الاعداء فيه دائمًا مهزومة.

في مسارٍ طويل وشاقّ، أصبحنا على مشارف النهاية، وهو الذي ربما ستشتعل فيه المنافسة التي لم يسبق لها مثيلًا من قبل، بين القوى التحرّرية والقوة المهيمِنة وأدواتها الداخلية وممثلو ثوراتها الملّونة. ففي النهايات تستعر المواجهة، وتكون الغلبة دائمًا لأصحاب الارادة والعزيمة، الذين لم يلينوا على مدى أكثر من أربعين عامًا، وهم أصحاب الأرض وهم المنتصرون في معركة التحرّر الكُبرى.

اساسي