“الديمقراطية المدجّجة بالسلاح” (4/2): لوبيات ونفوذ سياسي

تأسيسًا على “الواقع المسلّح لأميركا”، تنشط “الجمعية الوطنية للبنادق”، باعتبارها أكبر لوبي للأسلحة في البلاد، التي تحظى بدعم العديد من الوجوه السياسية في الحزب “الجمهوري”، أبرزهم الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي شارك في المؤتمر الأخير الذي عقدته الجمعية في مدينة هيوستن الواقعة ضمن ولاية تكساس، منتقدًا دعاة التشدد في قوانين اقتناء الأسلحة، بعد مجزرة مدرسة روب الابتدائية ببلدة يوفالدي في تكساس حيث أقدم شاب في أيار/ مايو الماضي على قتل 19 طفلًا ومدرّستين بواسطة بندقية شبه أوتوماتيكية. وتعتبر الجمعية الوطنية للبنادق أقوى منظمة لحقوق اقتناء السلاح في الولايات المتحدة، وقد رفضت معظم المبادرات الرامية إلى المساعدة في الحد من جرائم القتل الجماعي ومن بينها تشديد التحري عن خلفية مشتري الأسلحة.

وعن الدور السياسي للجمعية، التي تضم قرابة خمسة ملايين عضو، فمن المعلوم أنها تقدّم دعمًا ماليًا للحملات الانتخابية التي يخوضها الحزب الجمهوري في انتخابات الكونغرس، والرئاسة، ذلك أن السناتور عن ولاية تكساس، تيد كروز، وهو أحد أبرز وجوه المحافظين داخل الحزب، حظي بدعم مشابه، إلى جانب ترامب الذي تلقى أكثر من 30 مليون دولار من الجمعية الوطنية للبنادق خلال حملتيه للرئاسة. في المقابل، وبعد مذبحة بوفالدي، هاجم الرئيس الأميركي جو بايدن الجمعية المذكورة، فيما تجمع متظاهرون أمام المدرسة حاملين لافتات تدعو إلى حظر الأسلحة الهجومية.
وبخصوص التمويل، كشفت صحيفة “واشنطن بوست”، أن المتوسط السنوي لإيرادات المنظمة يقدّر بحوالي 128 مليون دولار يجري تحصيلها من اشتراكات الأعضاء، حيث تبلغ كلفة الاشتراك السنوي للفرد حوالي 40دولارًا. وقد ارتفع هذا الرقم من 72 مليون دولار عام 2006 إلى 228 مليون دولار عام 2007.

ولإيراد المزيد عن الجمعية، ونشأتها ودورها المتنامي على مختلف الصعد، يلفت المؤرخ الأميركي أندريه كاسبي، وهو مؤلف كتاب بعنوان “الأمة المسلحة، الأسلحة في قلب الثقافة الأميركية”، إلى أن الميزانية السنوية للجمعية أو ما يعرف بـ “الاتحاد القومي للبنادق” تقدر بـ 300 مليون دولار، مشيرًا إلى استخدام هذه الأموال من قبل جماعات الضغط ضد المسؤولين الأميركيين المنتخبين، بخاصة نواب ورؤساء الحزب الديمقراطي المناهضين تاريخيًا للوبي الأسلحة. وتكشف تقارير منظمات أميركية، متخصصة في رصد مصادر التمويل الانتخابي، أن الجمعية الناشطة على المستوى الاتحادي خصصت في العام 2016 نحو 20 مليون دولار لمهاجمة هيلاري كلينتون، المرشحة الديمقراطية لانتخابات الرئاسة الأميركية وقتذاك.


وكمؤشر يعكس حميمية العلاقة بين الجمعية، فقد تجاوز عدد الشركات المصنعة للأسلحة في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن حاجز الألفي شركة في الأشهر الأولى من عهده، فيما كانت ذروته في عام 2016 في عهد الرئيس “الجمهوري” الآخر دونالد ترامب، متجاوزًا حاجز العشرة آلاف شركة. ورغم حوادث العنف المتكررة في المدن الأميركية خلال الأعوام الماضية، يسجل العدد ارتفاعًا متزايدًا ليبلغ قرابة 17 ألف شركة مصنعة للأسلحة. وبلغ انتاج تلك الشركات 3.9 مليون قطعة سلاح في عهد بوش الابن، ارتفع إلى حوالي 11.9 مليون قطعة سلاح في عهد ترامب.

وبحسب مراقبين، فإن انطلاقة الجمعية، جاءت بدافع التجمع تحت إطار نقابي بين الصيادين والمتحمسين للرماية عام 1871، غير أنها انحرفت عن هذا الدور الضيق بدءًا من عام 1975، لتبدأ انخراطها الفاعل في الحياة السياسية الأميركية.

عودة “العنف العرقي”؟
اللافت أن الحيز المكاني لحادثتي إطلاق النار في مدينة هايلاند بارك في مقاطعة إلينوي في شيكاغو، وقبلها في إحدى مدارس بلدة بوفالدي بولاية تكساس في الآونة الأخيرة، ينضح بمشكلة مزمنة تزداد وضوحًا مع الأيام داخل المجتمع الأميركي، ألا وهي الانقسامات العرقية. فمعظم سكان بلدة يوفالدي، الواقعة بين سان أنطونيو والحدود المكسيكية، يتحدرون من أميركا اللاتينية. أما ايلينوي، فمن المعلوم أن المنطقة تضم خليطًا عرقيًا وثقافيًا. وقبل الهجومين، نفذ بايتون غيندرون، وهو شاب يبلغ من العمر 18 عامًا، هجومًا مسلحًا في بوفالو شمال ولاية نيويورك، راح ضحيته عشرة أشخاص من الأميركيين من أصول افريقية.

ووفق محضر الشهادة التي أدلى بها منفذ اعتداء بوفالو، اتضح أن غيندرون يتبنى أفكارًا عنصرية حول “مؤامرة” يدبرها الأميركيون من أصول افريقية، لإحلال أنفسهم مكان الأميركيين من ذوي البشرة البيضاء، وأن الدافع الأساسي للاعتداء يتعلق بالتصدي لهذا المخطط الذي يتصوره الأخير. وهذا ما يفسّر اختيار الجاني منطقة بوفالو، حيث تقطن نسبة ملحوظة من المتحدرين من أصول افريقية كمسرح لجريمته. نظرية المؤامرة المشار إليها أو كما يسميها غيندرون نفسه “نظرية الإحلال الكبير”، يغذيها بعض الإعلام الأميركي المحسوب على التيارات اليمينية. ففي تحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز”، تبين أن 400 حلقة من أحد البرامج التلفزيونية التي تبثها قناة “فوكس نيوز” تمحورت حول ما اعتبره مقدّم البرنامج تاكر كارلسون “رغبة النخبة (الليبرالية) الأميركية والحزب الديمقراطي باستغلال ملف الهجرة من أجل إحداث تغيير ديمغرافي”، في إشارة إلى حجم حضور التباينات العرقية في المشهد السياسي الداخلي في الولايات المتحدة.

وفي محاولتها لتقصي دوافع حوادث إطلاق النار الجماعي، لحظت مجلة “ناشونال انترست” أن عقيدة ما يعرف بـ “القومية البيضاء”، المنتشرة في الغرب بصورة عامة، والولايات المتحدة بصورة خاصة، وهي عقيدة تحمل أفكارًا متطرفة بشأن “تفوق العرق الأبيض”، تشكل الحافز الأساسي لدى بعض منفذي تلك الحوادث خلال الأعوام الأخيرة. وحذّرت المجلة من أن “القومية البيضاء تشكل تهديدًا حقيقيًا للشعب الأميركي”، أسوة بايديولوجيات عنصرية أخرى مسؤولة عما بات يعرف بـ “الإرهاب المحلي”.

وبدءًا من عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، والذي كان أول رئيس أميركي من أصول افريقية، تزايدت المؤشرات بشأن تنامي ذلك النوع من الإرهاب. ولتسليط الضوء على ظاهرة “التهديد الجديد”، فقد أصدرت وحدة تابعة لوزارة الأمن الداخلي، والمعنية برصد “الإرهاب المحلي”، وأعمال العنف “غير الإسلاموية الدافع”، مطلع العام 2009، تقريرًا حذّرت فيه من أن الانكماش الاقتصادي المتزامن في تلك الفترة مع الأزمة المالية العالمية، إلى جانب انتخاب أول رئيس من أصول افريقية” للبلاد، يشكلان “دوافع معززة للتطرف اليميني (بوجهيه القومي والديني) وفرصة لاكتسابه مناصرين جددًا” على غرار المناخ السياسي والاقتصادي الذي ساد في التسعينيات، وكان سببًا من أسباب اجتياح ظاهرة العنف عددًا من المدن الأميركية. كما لفت التقرير إلى أن مخاوف فئات معينة من المجتمع الأميركي من تزايد الهجرة غير الشرعية إلى البلاد، ومن امكان تشديد قوانين حيازة السلاح تشكل عناصر رفد لذلك النمط من الأفكار العنصرية.

هذا النوع من الإرهاب، والذي وصفه الرئيس الأميركي جو بايدن أخيرًا بـ “التهديد السام”، ارتفعت نسبته بحوالي 14 في المئة منذ بداية الألفية الجديدة. ووفق بيانات العام 2019 فقط، يمكن القول إن نصف حوادث القتل الجماعي تمت على أيدي أناس يعتنقون عقيدة “تفوق العرق الأبيض”.

اساسياميركا