في أوج احتدام السباق الرئاسي الأميركي عام 2012 بين الرئيس الأسبق المحسوب على الحزب الديمقراطي باراك أوباما، ومنافسه من الحزب الجمهوري ميت رومني، وفي أعقاب تمكن القوات الأميركية من قتل زعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن، طرح البروفسور في العلاقات الدولية ستيفن واليت سؤالًا مفاده: لماذا تعد مسألة ضبط الأسلحة داخل الولايات المتحدة أكثر أهمية من موضوع الإرهاب؟ وجّه الأستاذ المحاضر في جامعة “هارفرد” بوصلة حديثه حينذاك إلى التهديدات المحلية لأمن الولايات المتحدة، مشيرًا إلى أن بلاده أنفقت مئات مليارات الدولارات منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بحجة حماية مواطنيها من “الإرهاب الدولي”، في حين بلغ المتوسط السنوي لحصيلة الضحايا الأميركيين جراء الحوادث التي يمكن إدراجها تحت هذا العنوان منذ العام 2001، إلى العام 2012 ، حوالي 275 شخصًا، مقارنة بمعدل سنوي لضحايا حوادث العنف المحلية يقارب 30 ألف شخص، وهو المعدل الأعلى من بين الدول الصناعية الكبرى.
في حقيقة الأمر، إن سؤال واليت لا تزال تتردد أصداؤه هذه الأيام بعد حادثة إطلاق النار في ولاية إيلينوي، قبل أيام. هي “حلقة الدم المفرغة” التي تعاد تواليًا كفصول مسرحية مكررة. وكالعادة، يبدأ الأمر بالإعلان عن مقتل عدد من الأشخاص على يد مسلح في إحدى الولايات الأميركية، ومن ثم ينطلق الحديث عن ضرورة تشديد قوانين حيازة الأسلحة، داخل الإدارة أو تحت أروقة الكونغرس، قبل أن يلعب مؤيدو الحق “التعسفي” في حمل السلاح على مستوى الولايات المتحدة ككل، دورهم، بالاشتراك مع المؤسسة القضائية التي ستجد نفسها في صف الجاني، انطلاقًا من حرصها على ما تعتبره “مقدسات قانونية” تحمي ذلك الحق، لا سيما ما جاء في التعديل الثاني لدستور الولايات المتحدة، ليعقب ذلك تعهدات من كل حدب وصوب سياسي وقضائي، بعدم تكرار ما جرى، قبل أن يعاد الفصل المسرحي الممل برمته، مع فارق وحيد، ولكن ليس ببسيط، معلنًا عن نفسه من خلال عداد جديد للضحايا.
ما عرضه واليت يسلط الصوء على مسألة جدلية داخل الولايات المتحدة منذ عقود، ألا وهي ثقافة العنف المستشرية في المجتمع الأميركي. ووفق موقع “ذا ترايس”، المتخصص في رصد ضحايا حوادث إطلاق النار في الولايات المتحدة، تجاوز عدد هذا النوع من الحوادث منذ بداية العام الجاري عدد العمليات المسجلة منه في السنوات القليلة الماضية، ليسجّل 222 هجومًا ناريًا خلال 144 يومًا.
أصل المشكلة: فتّش في الدستور!
يوظف قطاع بيع الأسلحة في الولايات المتحدة، مئات آلاف الأشخاص، وتقدر عائداته السنوية بنحو عشرين مليار دولار، مع نسبة نمو سنوية تقارب الخمسة في المئة. وغالبًا ما تواجه الدعوات لمواجهة نفوذ لوبي الأسلحة المتنامي اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، بالدستور الاميركي الذي يقدس الحقوق الفردية، وقد كفل حرية التعبير، أسوة بحق المواطنين في حمل السلاح.
ومع أن الولايات المتحدة تتصدّر قائمة الدول الغنية حول العالم في معدل الوفيات من جرّاء العنف المسلح والذي يسقط بسببه حوالي 30 ألف شخصًا في الولايات المتحدة كل عام، يكفل الدستور الأميركي الحق للمواطنين في حمل وحيازة السلاح تحت عناوين متصلة بالدفاع عن النفس.
وتشير استطلاعات للرأي إلى أن غالبية الأميركيين تدعم تقييد حرية حيازة السلاح، لكن هناك مجتمعات، لا سيما في الولايات ذات الأغلبية الجمهورية، تؤيد حيازة السلاح. وعادة ما يقف نوّاب الكونغرس عن تلك الولايات الجمهورية في وجه الإصلاحات التشريعية الداعية لتقييد حيازة السلاح في البلاد.
ثقافة العنف في أميركا: “الاستثنائية الدموية”
في مقال بعنوان: “الثقافة الاستثنائية لأميركا في حيازة الأسلحة”، يرى المحلل السياسي في مجلة “فورين بوليسي” إلياس غرول، أن الولايات المتحدة تعد دولة خارجة عن المألوف وتغرّد خارج سرب الدول الأخرى، وفق مقاييس ثقافة العنف الرائجة في المجتمع الأميركي توازيًا مع حالة التراخي السائدة بخصوص تدابير منح تراخيص الأسلحة للأفراد، انسجامًا مع موجبات “التعديل الدستوري الثاني”، في إشارة إلى الخصوصية التي يحظى بها ملف حيازة الأسلحة من قبل المدنيين في ذلك المجتمع. ويعتبر الكاتب أن المجتمع الأميركي هو أشبه بـ “عصابة مسلحة تعمل لحسابها الخاص”.
ووفقًا لتقرير صادر عن وزارة العدل بتاريخ 17 أيار/ مايو الماضي، أنتجت شركات الأسلحة في الولايات المتحدة أكثر من 139 مليون سلاح ناري لأهداف تجارية خلال العقدين الماضيين، بما في ذلك أكثر من 11 مليون قطعة سلاح فردي في عام 2020. كما تظهر دراسة حكومية، أنه تم استيراد 71 مليون قطعة سلاح فردي خلال العام المذكور، في الوقت الذي لم يتعد فيه عدد الأسلحة المصدَّرة 7.5 ملايين قطعة سلاح. وفي مفارقة ملفتة، أوضح التقرير أن الأميركيين يفضلون شراء المسدسات شبه الأوتوماتيكية، من عيار 9 ملم، وهو الطراز نفسه المستخدم على نحو واسع في حوادث إطلاق النار. كما رصد التقرير زيادة في حيازة ما يسمى بـ “أسلحة الأشباح”، وهي أسلحة يمكن صنعها في المنزل بتكلفة منخفضة نسبيًا، ويمكن شراء أجزاء منها عبر الإنترنت أو إنتاجها بواسطة طابعة ثلاثية الأبعاد.
ووفق بيانات تعود إلى العام 2015، يمتلك 90 في المئة من سكان الولايات المتحدة، المقدر عددهم بأكثر من 330 مليون نسمة، سلاحًا ناريًا. هذا، وتشير أحدث التقديرات إلى وجود ما بين 270 و400 مليون بندقية ومسدس في البلاد، ما يجعل الولايات المتحدة أكبر قوة مسلحة على وجه الأرض، وفق خبراء أمنيين أميركيين.
ومع تصاعد موجة العنف المجتمعي داخل الولايات المتحدة، تحتل الفئة العمرية الشابة نسبة وافرة من ضحايا تلك الموجة. فقد شهد العقد الأخير 900 حادثة إطلاق داخل المدارس وحدها. وفي حين بقيت حصيلة ضحايا تلك الفئة العمرية جراء الأسلحة النارية منذ مطلع التسعينيات ضمن حدود 7 آلاف شخص، فقد سجل العام 2020 تجاوز العدد عتبة الـ 10 آلاف شخص. ويُرجع خبراء في علم الجريمة، تلك النسبة المتزايدة في الفترة المشار إليها إلى تخفيف القيود على شروط اقتناء الأسلحة وشرائها.
وبينما اتجهت 28 ولاية أميركية، من ضمنها العاصمة واشنطن، إلى تشديد شروط حيازة السلاح في العام الماضي، سلكت ولايات أخرى اتجاهًا مغايرًا، من بينها ولاية تكساس، ذات القاعدة الشعبية التقليدية المحافظة، والتي شهدت جولة عنف قبل أسابيع قليلة، بحيث سمحت للأفراد الذين بلغوا سن 21 وما فوق، باقتناء أسلحة من دون فرض شروط الخضوع لتدريبات على الاستخدام، أو الحصول على رخصة قانونية.
هذه الاتجاهات العنفية لدى قطاع واسع من المجتمع الأميركي، تعززها استطلاعات الرأي. ففي استطلاع أجراه مركز “غالاب” لتحليل اتجاهات الرأي العام، مؤخرًا، تبين أن ما نسبته 52 في المئة فقط من الأميركيين تؤيد تشديد قوانين حيازة الأسلحة، بعدما لامست النسبة حدود 67 في المئة خلال العام 2019، وهو ما يشي بتشبث السواد الأعظم من المجتمع الأميركي بما يكفله له الدستور على هذا الصعيد.