أذكرُ أنها كانت حوالي الساعة السابعة صباحًا. كنّا نيامًا في عزّ عدوانِ تمّوز ٢٠٠٦. بيتُنا المُطِلُّ على جِسر كازينو لبنان لم يستيقظْ أهله بعد. كانوا جميعًا مسمّرين قبل ساعاتٍ على شاشةِ المقاومةِ يتابعونَ ليلًا داميًا من العدوانِ الجوّيِّ شنّته المقاتلاتُ الإسرائيلية. قبلَ سماعِ دويِّ ارتطامِ الصاروخِ على الجسرِ كنتُ في خضَمِّ حالةِ عصفٍ فكريٍّ صَموت. حالةٌ تَكُونُ فيها المُخاطِبَ والمُخاطَبَ في الوقتِ عينِه. ثنائيةٌ حواريَّةٌ من علاماتها صفناتُ البالِ والتفرُّسُ في الفراغِ الكَونيِّ، وهي غالبًا ما تعتري المرءَ قبلَ انبلاجِ الفجرِ وتتمحورُ حول القضايا الوجدانيَّةِ الكُبرى.
“لم نكُن نعلمُ بما جرى ولسنا مسؤولينَ عنه” كانت يومَها العبارة – التخريجة التي أتتْ على لسانِ أحدِ الوزراءِ آنذاك نتيجةَ الطلبِ الأميركي الملحِّ تفاديًا للغضبِ الإسرائيلي. حكومَةٌ أميركيةٌ بالكامل مقابلَ مقاومةٍ لبنانيةٍ بالكامل.
بعد ستةَ عَشَرَ عامًا أتذكّرُ اليوم “إيهود غولدفاسر” و”إلداد ريغف”. عادا بعد سنتينِ من العدوان في تابوتَين فيما أَطلَقَ الكيانُ المؤقتُ سراحَ سمير القنطار وماهر كوراني ومحمد سرور وحسين سلمان وخضر زيدان. أطلقَ الصهاينةُ أيضًا سراحَ أنفُس حوالي مِئَتَي مقاومٍ لبناني. لا تستريحُ أنفُس الشهداءِ في أمكنةٍ مدنَّسة. مئاتُ الأمَّهاتِ أهداهنَّ الانتصارُ أضرِحَةً لفلذاتِ أكبادِهِنّ.
وسطَ هذه الاحتفاليةِ التي انتصرتْ فيها المقاومةُ على أعتى قوةٍ غاشمةٍ كرَّرَ لبنانُ الرسميُّ مقولَتَه: “لم نكن نعلمُ بما جرى ولسنا مسؤولينَ عنه”. موقفٌ أكَّدَ لي لاحقًا أنَّ تملّصَ الحكومَةِ اللبنانيّةِ حتى من معرفتها بعمليةِ المقاومةِ دليلٌ على أنَّ قتلاها مِنَ المقاومينَ اللبنانيينَ لدى العدو ليسوا شهداء. عفوًا، ليسوا قتلى حتى. موقفُ الحكومةِ يعني أن مِئَتَي شهيد لبناني في إسرائيل لم يولدوا أصلًا، وإذا تأكّدَتْ ولادتُهم في السجلات فهم ليسوا بنظرِها لبنانيين. على هذا النحو تعاطتْ حكومةُ لبنان مع رعاياها. لا أذكرُ حتى أنها أحصَتهُم يومًا وأرسَلَتْ أسماءهم إلى المحاكمِ الدولية أو مجلسِ الأمنِ وهذا أقلُّ الإيمان. أقلُّ الإيمانِ في الأمورِ الوطنيةِ هو أكثرُ النُّكران.
عَودٌ على بَدء. قبيلَ الساعة السابعة. جسرُ الكازينو. بيتي المُطِلُّ. الكلُّ نِيام. ١٤ آذار طلبتْ من أميركا التوسط لدى الكيان لتحييدِ المناطق “الحليفة”. اقصفوا مناطقهم وحيدوا عن مناطقنا. قدَّمَ فريق ١٤ آذار خرائط تدلُّ العدوّ على الأمكنةِ المُفضَّل قصفُها. لن يبقى بعدها سوى إصدارُ بياناتِ بكاءٍ على الأطلال. تطابقٌ مئة بالمئة لمقولة “قتلوهُ ومشوا في جنازته”.
وأنا في عزِّ الحوارِ الداخلي مع نفسي يسقطُ الصاروخ وسطَ جسرِ الكازينو. أذكرُ من نافذةِ غرفتي مشهدين: حفرةٌ كبيرة تخرج منها قضبانُ حديدٍ ودخان وسيارة مرسيدس سوداءَ مفيَّمةً متضررةً وسط الجسر. الحمد لله أن العدوَّ لم يلتزمْ بالخريطة. حمدُكَ يا الله أنه استهدفَ مناطق “حليفة”. الحمد لله، أن يساوي العدوُّ بين منطقةٍ حليفةٍ ومنطقةٍ عدوَّةٍ يجعلُنا وطنًا واحدًا وشعبًا واحدًا ودولةً واحدة. عدوٌّ يوحِّدُنا غصبًا. لعله قالَ في سريرته “مجانين هؤلاء، لا يعلمونَ أني لا أميّزُ بين حليفٍ وعدو. أنا عدوُّ لبنان في جميعِ أحواله وكل تجلياته”.
مرعوبينَ استيقظنا. الكلُّ يدينُ ويشتمُ “إسرائيل” في المناطقِ “الحليفة”. مِن حسناتِ الصاروخ أنه ذكَّرَنا بلبنانيتنا.