من منكم شاهد مسلسل يوسف الصديق؟ الكلّ رفع يده. من شاهده أكثر من مرّة؟ الكلّ رفع يده. حسنًا، من منكم شاهده أكثر من ثلاث مرات؟ أيضًا نفس النتيجة. فسألت السؤال الأخير مرة واحدة: من شاهده أكثر من عشر مرات؟ باستثناء خمسة من أصل أكثر من سبعين شخصًا كانوا في القاعة الجميع رفع يده بالموافقة.
إذا سألنا مختصي صناعة الأفلام والدراما فسيحدثونك عن عشرات المسائل الفنية المتشابكة، لكن كل هذه الأمور ليست الأفضل التي تجعل هذا العمل يحمل كل هذه الجاذبية إلى هذا الحد؛ فحجم الانتاج اليوم في العالم يستوعب كل الرغبات والأذواق، وفيها من الأمور المشتركة الكثيرة مع هذا المسلسل، قصص الحب والزواج، الحكم، الحرب، الحركة، و.. لكن الجاذبية هنا ليست متوقفة على كونه فيلمًا أو مسلسلًا شائقًا بل، إنه لا يستخدم مرة واحدة، وهذه الخاصية ليست موجودة في أكثر الأفلام مبيعًا في العالم، إذ لن نجد عددًا كبيرًا من المشاهدين المكررين لنفس العمل أو الرغبة في مشاهدة العمل والسعي لذلك مرات ومرات مع وجود كل هذا العدد من الانتاجات كل عام.
تنتج المؤسسات العربية في صناعة المسلسلات كل عام أكثر من ١٥٠ مسلسلًا طويلًا تتوزع على أكثر من ٥٠ قناة فضائية، وبعض المسلسلات تعرضها عدة قنوات في نفس الوقت، وذلك لموسم شهر رمضان فقط. كذلك دخلت المنصات الأجنبية عالم المنافسة بترجمة أهم المنتجات العالمية إلى عدة لغات في نفس الوقت، وأيضًا المنصات العربية، أي السينما المنزلية التي تعتمد على الانترنت، فقد دخلت مستوى المنافسة مع الماركات العالمية. كل هذه تشكل سوقًا هائلًا يضاف إليه التركي بأكثر من ١٥٠ مسلسلًا مدبلجًا حتى الآن، والهندي والكوري على نطاق واسع. يضاف إلى هذا السينما الإيرانية التي دبلج منها عشرات المسلسلات والأفلام حتى الآن، بمجموع يزيد عن خمسة آلاف حلقة.
أما مسلسل يوسف الصديق فقد حصد وما زال أعلى المشاهدات العالمية، على أكثر من ٧٠ قناة فضائية، وما زال مستمر العرض منذ انتاجه حتى الآن بدون توقف.
اكتشف ضيوفنا الأعزاء من طهران في أوّل رحلة إلى بيروت، أن جميع الجلسات تنظّم على اساس ساعات محددة وتستثني أوقاتًا متشابهة تبين بعد يومين من الرحلة أنها كانت في نفس الوقت؛ بالصدفة عرفوا أن مسلسل يوسف الصديق يعرض على قناة المنار في ثلاثة مواعيد يوميًا، ويحاول الأخوة تنظيم اللقاءات بحيث يبقى لهم فرصة متابعة العمل دون أن يخسروا أيّة حلقة منه، مع أنّ اللقاءات كانت مع مسؤولي الصف الأول ومديري المؤسسات.
سلام فرمانده، هذا “التحدي” أو كما يُسمى في صناعة الميديا، challenge، بدأ كحركة شخصية من مجموعة إنشاد محدودة الشهرة، أو شهرتها محلية مع تفاعل كبير من اللحظة الأولى، لتلقى مقبولية ورغبة عند الجمهور بالتبني إلى حد تكرارها بشكل مستمر، فانتشرت من فئة لأخرى وتجاوزت حد اللغة والجغرافيا والعمر، فمنهم من تبناها بحذافيرها وانتظر منشدها الأول السيد أبو ذر روحي، ومنهم من حملها وتبناها كأنها أصبحت ملكه فعدل على النص أو اللحن أو التشكيل بعض الشيء فاستهدفت فئات أخرى من الجمهور جذبتها التعديلات أكثر من العمل الرئيسي. وكل هذا كان عوامل للانتشار الأكثر. جاء الإعلام الرسمي والمؤسسات الرسمية للالتحاق بالموجة لكن الموجة بقيت شعبية أقوى منهم فكسبوا هم أكثر من هذه الحالة الجماهيرية الأصيلة.
فرقة ماح للإنشاد، والرادود ابو ذر روحي، لبوا دعوة الناس للحضور في الميدان متنقلين من ساحة لأخرى، ومن القاعات الكبرى حتى مستشفيات الأمراض المستعصية، وحتى لزيارة مقعدين في بيوتهم لم يتسنَّ لهم الحضور في الأماكن العامة لإجراء النشيد، وهو من الان الى ثلاثة أشهر قادمة دفتر مواعيده مليء بالحجوزات.
إن القالب الذي أنتج فيه العمل الرائع يوسف هو مسلسل من ٤٥ حلقة استدعى الحاجة إلى القنوات التلفزيونية والفضائيات ومنصات الفضاء المجازي لمتابعته ومشاهدته، أما تحدي “سلام فرمانده” فبسبب كونه قابلًا للتنفيذ بشكل مباشر وبدون أي أدوات أو بالحد الأدنى باستخدام هاتف خلوي، يجعل المشارك جزءًا من العمل ويتفاعل مع الشكل والمضمون في آن واحد.
عنصران مشتركان إلى حد بعيد بين هذين العملين نراهما بوضوح، وفي نفس الوقت لا يتوفران في أعمال أخرى حتى الدينية منها.
يعيش الانسان في صراع بين جسده وروحه وعقله، ولكن التوازن بينها ليس بالأمر السهل، فعندما تحين الفرصة للوصول إلى هذا التعادل فإن الجزء الضعيف يتوجه توقًا لسد الفراغ الذي لديه.
الأرض تعيش فقدًا هائلًا، فالعدل كل يوم يضعف في هذا العالم ولا ترى سوى حكومات ظالمة متعاقبة يلعن بعضها بعضًا، ويدفع الثمن مستضعفو الأرض بكل أطيافهم وانتماءاتهم.
في هذين العملين تجتمع هاتان الضالتان الكبريان للبشرية العدالة والروح، وكلا الأمرين محور أساسي وواضح تمامًا هنا، فالبشرية تتوق إلى رؤية الحاكم العادل والمجتمع الذي يعطي عالم المعنى والروح مكانته السليمة والمطلوبة للبشرية. وهذا الحاكم العادل والسليم عندما يكون متصلًا بالدين والسماء يعطي طمأنينة للناس، فالله عز وجل ما زال في جميع الاديان والشعوب المصدر الوحيد للطمأنينة.
يأتي هذا العمل كجرعة عاطفية ضخمة تمامًا كتلك التي نتجت عن تشييع الحاج قاسم سليماني على مدى عدة أيام في جميع المحافظات والدول التي فيها مريدوه.
هذه العاطفة الجياشة التي تظهر في العملين تمامًا كتفاعل الناس في التشييع تنتقل إلى المخاطب والمتلقي وتساعد بشكل قوي في تفاعله مع العمل، وهكذا يبقى التفاعل يسري دون توقف كما كربلاء، حرارة لن تبرد أبدًا.
إنّ رواية السماء كانت دائمًا متفوقة، ولولا ذلك لما كان كل هذا العداء والسعي لمواجهة الأنبياء وكتبهم وآثارهم بكل السبل على مدى آلاف السنين دون جدوى.