في احتفاليةِ أربعينَ سنةً من عمرِ المقاومةِ في لبنان مناسبةٌ للتنقيبِ في بئرِ ذاكِرَتي عن بعض مسلَّماتٍ مستقرّةٍ في قَعرِها أسهمَتْ وأسهَبَتْ في تشييدِ بنائي الفِكري وفِي تصفيَتِهِ مِن أوكسيدِ رخاوَتِهِ ومُيوعَتِهِ وفِي اقتيادهِ طائعًا مُختارًا بلَّورَةً ناصعةً في مِحرابِ المناسبةِ الأربَعين.
النأَيُ عن الانفصام أولى المسلّمات. من المستحيل أن تنفصمَ السريرةُ عن الأداءِ العلنيِّ في دنيا الأخلاق. موقفي من المقاومةِ في لبنان أخلاقيٌّ أولًا. السياسةُ تحتلُّ موقعًا ظَرفيًّا فيه. في مسالِكِ السياسةِ لا أنتمي إلى التعرجاتِ الأفعوانيةِ، ويبدو لي الانفصام جزءًا من كينونةِ الأداء لدى أغلب من يفتَحونَ دكاكينَ سياسةٍ في بلدنا.
في موقفي من المقاومة أتّبعُ النهجَ الذي لا يفصلُ العلمَ عن العمل. لا يمكنُ أن تؤمنَ في داخِلِكَ وألا يظهرَ إيمانكَ في المسلك. مستحيلٌ أن تنجو دون أن تسلكَ مسالكَ النجاة، فالسفينةُ كما قيلَ شعرًا “لا تَجري على اليبَسِ”.
يقينِيَّةُ القناعة ثانية المسلَّمات. استحضرُ حجَّةَ الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي في تعريفه بالعلم اليقيني، عالمًا وقورًا ما زلتُ أجتمعُ به بين رفوف مكتبتي المتواضعة التي تضمُّ أغلبَ مصنّفاتِه ومنها “المنقذ من الضلال”، “تهافت الفلاسفة”، “إحياء علوم الدين”، وأجملُها وأيسرُها رسالة “أيها الولد” التي قرأتها مرّاتٍ ومرّات.
العلمُ اليقينيُّ برأي الغزالي هو الذي ينكشفُ فيه المعلومُ انكشافًا لا يبقى معه ريبٌ ولا يقارنُهُ إمكانُ الغلطِ والوهم. شهداءُ المقاومةِ الذين سقطوا دفاعًا عن لبنان هم علمي اليقيني. أضرِحَتُهُم ملاذي في مواجهةِ الهَراطِقة.
يقول الغزالي في “المنقذ من الضلال”: “فإني إذا علمتُ أن العَشْرَةَ أكثرُ من الثلاثة، فلو قال لي قائلٌ: لا، بل الثلاثةُ أكثرُ من العَشْرَةِ بدليلِ أني أقلبُ هذه العصا ثعبانًا، وقَلَبَها، وشاهدتُ ذلك منه، لم أشُكَّ بسببِهِ في معرفتي، ولم يحصلْ لي منه إلا التعجُّبُ من كيفيَّةِ قدرتِهِ عليه! فأما الشكُّ فيما علمتُهُ فَلا”. يمكنُ أن يأتي دايڤيد كوبرفيلد وهوديني وراسبوتين ومن لفَّ لفَّهُم وأن يقلبوا أمامي العصا ثعبانًا وأن أشاهِدَ ذلك منهم دون أن يحصلَ لي منهُم إلا التعجُّبُ من كيفيّةِ قدرَتِهِم عليه، فأما الشكُّ بالمقاومةِ فَلا.
ثالِثةُ المسلَّماتِ مسيحيَّتي. كنيسَتي الأولى القدس، وهي مدينةٌ ارتبَطَت بالمسيح طفولةً وتربيةً ووعظًا وكرازةً وموتًا وقيامة. مَعنيٌّ بالمباشَر بتحريرِها والصلاةِ فيها. لبنانيَّتي انتماءٌ وَطنيٌّ به أعتزّ. مقدسيَّتي انتماءٌ إنسانيٌّ شُموليٌّ به أسمو، وبينَ اعتزازي الوطني وسموِّ مقدسيَّتي عروةٌ وُثقى هي المقاومة. المقاومة هي أكثر من مدفع وأكثر من صاروخ وأكثر من بندقية. لا أقيسُ المقاومة بعدد صواريخها؛ أقيسُها بالتزامِها حتمية تحرير فلسطين وباعتبارها الصراعَ صراعًا تاريخيًا بين الخيرِ والشرّ، وبين الله وأعداءِ الله. لهذا السبب مسيحيَّتي مُقاوِمَةٌ، ولهذا السبب نفسهُ أيضًا تَجمَعُني مع الإسلامِ قِبلَةٌ مشترَكةٌ هي فلسطين.
مُسَلَّمَتي الرابِعَةُ كربلائية. أنا سليلُ واقِعَتَين: الجلجلةُ والطَفّ. نكثَ يزيد ثغرِ الحسين الطاهرِ في كربلاء. كان من بين جلّاسِه موفدُ قيصر الروم فَما كانَ منه إلا أن قالَ ليزيدٍ مستٍعظِمًا فِعلَتَهُ : إنَّ عندَنا حافِرُ حِمارِ عيسى ونحنُ نحجُّ إليه ونوفيهِ النُّذور فأشهَدُ أنكم على باطِل.
لا أناقشُ تاريخيةَ الحدث، وأعرفُ أنه مدار جدلٍ بينَ من يؤكدُ ومن ينفي، ولكن أتعلَّقُ برمزيَّتِه. ينكثُ يزيد بالقضيبِ الثغرَ الطاهر. يُطعَنُ المسيحُ برمحٍ في الضلوع. يُعَطّشُ الحسينُ عليه السلامُ في كربلاء ويُسقى المسيحُ بخرقَةٍ مبللةٍ بالخَلّ. يُقطَعُ رأسُ الحسين عليه السلام فيما يُقَدَّمُ رأسُ يوحنا المعمدان في طِشتٍ مُذَهَّبٍ كرمى لعيني سالومي. أنا مُواطِنٌ كربلائيٌّ وجُلجليٌّ على حدٍ سواء تَجمَعُني مع الحسين عليه السلام شهادتان سَكَنَتا التاريخ؛ الأولى ألَّهَتهُ والثانيةُ أنسَنَتهُ. أقنومانِ يتكامَلانِ في الموتِ المُحيي، يتماهَيان كلَّما رَوَتهُما المقاومةُ بِدماءِ الشُّهَداء.