“لبنان بلد سياحي خدماتي قائم على القطاعين الخدماتي والمصرفي”.
عبارة حفظناها من دروس التربية أيامَ الدراسة. كنا نعتقد أنّ الحياة تمشي صعودًا وأن الأيام الصعبة تهون، أنّنا لن نضطرّ أن نفعل مثل ما فعل ابن خالتنا الذي تخرج من الجامعة وهاجر بسبب قلة فرص العمل. كنا نؤمن أنّ دعاء جدّتنا “الله يبعتلكن أيام أحلى من أيامنا” سيكون مقبولًا وأننا فعلًا سوف نرى أيامًا أجمل حينما نكبر. كبرنا، وعينا، وأذعنّا أننا نُهبنا من قبل أن نخلق وأن مستقبلنا انتهى من قبل أن يبدأ. ابن خالتنا لحقه باقي أفراد الحياة إلى الهجرة. فارقت جدتنا الحياة قبل أن تعلم أنّ دعاءها لم يُقبل، ولم نرَ يومًا أجمل من الذي سبقه.
بعد أكثر من عامين ونصف، كنت لتتوقع، لو أنك في بلد طبيعي أو عالم مثاليّ، أن تجري مراجعة لنظامنا الاقتصادي، أن نكون قد استقللنا على الأقل في صنع ملابس داخلية، أو أن نأكل من محصول مزارع لبناني، أو نصدّر أكثر، أو نعمل على الحفاظ على الثروات الموجودة وأهمها الإنسان.
يبدأ فصل الصيف بعد بضعة أيام. الصيف مع لبنان مميّز فعلًا، نتكلّم عن بلد يمتاز بفصوله الأربعة ومناخه المعتدل – كما كنا نتعلم في دروس الجغرافيا – هذا بالإضافة لمصايف وملاهٍ ليلية وكازينو وحانات وأنشطة سياحية جعلته سابقًا الوجهة الأولى عربيًا للسياح العرب الذين كانوا يجدون فيه ما كان ينقصهم.
أزمة الكهرباء ليست بجديدة، منذ اكتشاف الكهرباء لم يشهد لبنان (الـ10,452 كم مربع) وجود كهرباء 24/7، ولكن اليوم لم يعد الحال كما كان من قبل. كانت الكهرباء تنقطع سابقًا ثلاث ساعات في العاصمة بيروت مع اشتراك في مولّد خاص. كان الجميع تقريبًا ينعم بكهرباء مدار اليوم، خاصةً إن كان سائحًا يقيم بفندق أو يذهب لمطعم لم يكن سيشهد انقطاعًا للكهرباء. اليوم ليس هناك كهرباء، تصل أيامًا لصفر ساعات تغذية حتى في بيروت. صار أمرًا طبيعيًا أن تُغلق المطاعم أبوابها قبيل منتصف الليل لتوفير مصروف اشتراك المولد. طرقاتٌ كاملة وأوتسترادات بلا إضاءة ليلًا، لا إشارات سير، لا أضواء محلات تجارية على طرفي الطريق.
بيروت أمست جسدًا بلا روح. الجسد موجود ولكن لا روح فيه؛ وجوه أهلها بائسة، شاخ شبابها باكرًا وكُسر ظهرُ رجالها قبل أوانه. غابت البسمة والضحكة عن وجوه أغلب قاطني لبنان، ما عدا طبقة النوفو ريش الجديدة، هؤلاء حملة الفريش دولار الذين استمرّ راتبهم على حاله بالدولار خلال الأزمة، فمن راتبه بقي 1200$ مثلًا ما زال بإمكانه فعل أغلب ما كان يفعله قبل عامين بل أكثر في أغلب الأحيان، أما عامّة الشعب من غير الفقراء فتقلّصت سهراتهم وجلساتهم وأصبحوا يكتفون بمشروب واحد في أقرب مقهى مع أصدقائهم.
اليوم هناك أزمة اقتصادية عالمية خانقة. وحتى في أيام العز لم يكن اعتماد لبنان على السياح الأوروبيين والأميركيين لأنهم في أغلب الأحيان اقتصاديون ويأتون من أجل المغامرة وتجربة المطاعم الشعبية عوضًا عن أفخم الفنادق والمطاعم، فتجد اليوم هؤلاء السياح يأتون ويوثقون تجربتهم في لبنان بما يعرف بالـ Bloggers فيسردون تجربتهم في المفاصلة بالأسعار والتبضع في الأسواق الشعبية وكيفية حصولهم على أفضل الأسعار للسكن والإيجار، تشاهدهم فتقتنع أنك أصبحت دولة فقيرة يأتي الناس إليها لكي يرووا تجربتهم وكيف قضوا وقتهم من دون كهرباء وكيف انتظروا ساعات ليحصلوا على الغذاء والدواء والمحروقات.
أما في ما خصّ السياح من اخواننا العرب، فيبدو من حيث المشاهدة أن العراقيين والمصريين أكثر السواح العرب قدومًا إلى لبنان؛ تراهم في مقاهي ومطاعم الحمرا ومار مخايل وعلى عين المريسة والروشة يوميًا. أغلب سكان مصر والعراق ليسوا من الأثرياء مما يعني أنّ انخفاض أسعار العديد من الخدمات في لبنان في الفترة الأخيرة ساعد في جذبهم لزيارة لبنان.
إذًا، من يقصدون عندما يقولون إنهم معتمدون على السياح في موسم الصيف؟ يقصدون اللبنانيين المغتربين الذين سوف يزورون أهلهم ويقضون بضعة أيام في لبنان. هؤلاء يريدون ممّن كانوا سبب هجرته أو سبب سرقة ودائعه أن يأتي لبنان ويصرف المال فيه ولا يكتفي بإرسال بضع مئات من الدولارات إلى أهله شهريًا فحسب. كنّا بلدًا يعيش على عائدات المغتربين والسياح، واليوم أصبحنا نعيش على المغتربين فحسب -للعلم، هذا الأمر سيحصل، غرف الفنادق والشاليهات محجوزة كلها منذ أسابيع-.
السياحة قطاع مهم وليس المطلوب تهميشه، ولكن الحلول المؤقتة ليست حلًّا بل هي مشكلة مستقبلية. لا نستطيع الاستمرار بنظام أوصلنا لما وصلنا إليه. علينا دعم قطاعات أخرى والتركيز عليها، قطاعات فيها مردود أفضل للمستقبل وفرص عمل آنية ومستقبلية كالصناعة مثلًا، فما المانع من دعم معامل ثياب بعد أن أصبح القميص الرخيص أغلى من الحد الأدنى للأجور والحذاء براتب نصف سنة؟ (لبنان كان يتميز بصناعة أحذية بجودة عالية وتصديرها قبل نحو ثلاثين سنة). والأفضل أن ندفع المغتربين لاستثمار مشاريع في لبنان توفّر فرصَ عمل وحلولًا عوضًا عن دفعهم 400 دولار مقابل ليلة في فندق.