يعود الحديث عن إنشاء “ناتو الشرق الأوسط” إلى الضوء. في مقابلته الأخيرة مع قناة CNBC، كان الملك الأردني ينعى الطرح بشكل غير مباشر. “لكن علينا بوضوح أن نحدد ما هو دورنا… لكن يجب التفكير في الروابط مع بقية العالم وكيف ننسجم فيه”.. أكثر من “لكن” رددها ملك الأردن كانت تُعبّر عن موقفه، رغم إعلانه الشكلي عن تأييده للطرح، ليبدو أن الفكرة التي وُلدت ميتة، ستبقى كذلك.
في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خرج مسمى “ناتو الشرق الأوسط” للتداول للمرة الأولى. أعلن الرجل عن رغبته بتوسيع حلف الناتو ليضم دولًا في الشرق الأوسط بهدف مواجهة إيران. ورغم الاهتمام الذي لاقته الفكرة سياسيًا واعلاميًا من قبل دول خليجية، وتحديدًا السعودية، إلا أن رغبة ترامب بقيت غير قابلة للتحقيق.
لاحقًا، وفي الرابع من آذار/مارس 2021، نشرت صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية مقالًا للصهيوني الأميركي رونالد لاودر، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي الداعم للحركة الصهيونية. المقال الذي حمل عنوان “ناتو للشرق الأوسط”، كان يطرح إنشاء “ناتو” خاص بالمنطقة، وتساءل يومها لاودر: “ألم يحن الوقت بعد للجمع بين الصراع الهائل ضد إيران وهذه الشراكة العربية – الإسرائيلية المزدهرة؟ ألم يحن الوقت بعد لاتخاذ خطوة أخرى جريئة أبعد من اتفاقات أبراهام؟ هل يمكن أن يكون هذا هو الوقت المناسب للعرب والإسرائيليين للدخول في تحالف استراتيجي؟”. وبعد أيام فقط وفي الصحيفة نفسها كان يلاقيه في دعوته عبد الرحمن الراشد، أكثر الاعلاميين السعوديين قُربًا من ابن سلمان، بالقول: “كل أسبوع يمر يبرهن على الحاجة إلى تكتل دول المنطقة في وجه إيران بغض النظر عما تؤول إليه محاولات التفاوض بين الغرب وإيران”، مستشهدًا بكلام لاودر عن “ناتو الشرق الأوسط”.
صحيفة “الشرق الأوسط” وصفت الطرح في حال تحقيقه بالتحول الاستراتيجي الحقيقي الذي من شأنه أن يُغيّر قواعد اللعبة، دون أن يناقش كتّابها أي نجاح يُسجل للناتو الذي يتعرض لانتقادات ازدادت بفعل تعاطيه مع الأزمة الاوكرانية، ودون أن يتناولوا النقاط التي تدعو لاستنساخ فشله من قبل كيانات اقليمية غارقة في أزماتها الأمنية وتحدياتها الاقتصادية. ولكنه التطبيل لكل عناوين من شأنها أن تضيء على ما يجمع بين السعودية و “إسرائيل”، أي إنها المهمة التي تخوضها “نخب” ابن سلمان دون تفويت أي فرصة. مع ذلك لا يبدو أن ثمة مقومات لولادة “ناتو” شرق أوسطي، علمًا أن التنسيق وعمليات الإمداد والدعم الأميركي-السعودي-الإسرائيلي قائمة؛ ويمكن العودة لما نُشر في صحيفة “واشنطن بوست” في نهايات العام 2021، للاطلاع على الانخراط الرئيسي المباشر في العدوان على اليمن منذ 2015.
ولكن أي مقومات يستند إليها القائلون باحتمال قيام هذا النوع من التحالفات العسكرية في المنطقة في وقت تخوض فيه أنظمة “التفكير الواحد” -على حد وصف الملك الأردني- صراعاتها من تحت الطاولة؟ ففي الوقت الذي لم ينسَ الأردن للسعودية دورها الفاشل طبعًا في الوقوف خلف محاولة الانقلاب الأخيرة، يخرج من مصر مقال لعماد الدين أديب، الذي يعتبر قلم ولسان السلطة، ليثير ردود فعل خليجية تحدثت عن ابتزاز غير مباشر يمارسه السيسي، ليرد السعودي المقرب من الامارات تركي الحمد مباشرة مهاجمًا السلطة واصفًا مصر بأنها أصبحت “عالة على هذا وذاك”. وحتى ضمن البيت الخليجي الذي لم يعد واحدًا، ماذا عن التنافس السعودي الإماراتي الآخذ في التصاعد والذي تمظهر عسكريًا في معارك الجنوب اليمني، وبدا فاقعًا سياسيًا واقتصاديًا في جملة خطوات استثمارية وتشريعية كان يعلن عنها البلدان؟
وماذا عن المهمة التي ستقع على عاتق الحلف فيما لو تم إنشاؤه؟ الملك الأردني كان يربط الـ “لكن” بوضوح المهمة والدور دون قطع الروابط مع العالم. واليوم وبغض النظر عن الخطاب المعتمد في الاعلام الرسمي العربي، ما يتبين يوميًا أن جسور التواصل مع إيران لم تقطع، بل هي آخذة في التوسع، من الرياض التي حمّلت رئيس الوزراء العراقي في زيارته الأخيرة رسائل ايجابية باتجاه الحوار مع طهران وإعادة فتح السفارات بين البلدين، إلى ما تم تسريبه في الإعلام عن محادثات سرية تتم بين الأردن وإيران منذ عام، وعن حوار مصري ايراني سينطلق برعاية عراقية قريبًا. هذا بالإضافة إلى الأولويات التي تبدو أكثر إلحاحًا اليوم عربيًا ودوليًا، في اقتصادات ما بعد كورونا، التي ترهقها أكلاف الحرب في شرق أوروبا.
حتى الآن لا يبدو أن طرح “ناتو شرق أوسطي” يحمل أي جدية، بقدر ما هي تفاهمات تصب في خدمة عملية دمج وتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، وفي إيجاد ترتيبات تساهم في خلق أجواء أكثر ملاءمة لمصالح واشنطن في مفاوضاتها مع إيران، وتثبيت التهدئة في المنطقة للتفرغ للأهداف الأخرى.
وبموازاة كل ما ذُكر، يبقى أن طرح عناوين وأسماء أحلاف عسكرية جديدة بين فترة وأخرى لا يعني إلا إعلان فشل كل ما سبق من أحلاف، سواء التي شوهدت مرة منذ نشأتها أو تلك التي لم يظهر لها أثر أصلًا: كقوات درع الجزيرة التي لم تُوثق أي مشاركة لها إلا في عمليات هدم المساجد البحرينية وقتل وملاحقة متظاهرين عُزل في البحرين، مرورًا بتحالف إسلامي من 41 دولة أعلنه ابن سلمان ولم يُسمع عنه أي خبر لاحقًا، إلى التحالف العربي للعدوان على اليمن الذي، وبغض النظر عن الدول المعلن انخراطها فيه، يتشكل فعليًا من السعودية والإمارات والبحرين ومرتزقة، والذي رافقت الخسائر كل قواته التي ضُبطت في الميدان شمالًا، في الوقت الذي كان المنضوون ضمنه يخوضون حروب نفوذ قسمت تحالفهم جنوبًا.