مرّ عام إذًا، وها أنت لم تزل صوتًا واضحًا رغم إغماضة العينين الناطقتين بكلّ زيتون فلسطين، ورغم الكدمات الظاهرة على وجه جثمانك الغافي بعد سنين من تعب، ورغم الاغتيال الموثّق البالغ في وقاحته حدّ العفو المقنّع عن قاتليك.
عامٌ ما مرّ به حدثٌ ولم نجد في سجلّك موقف منه، وكأنّك كنت تعدّ التسجيلات كي تحضر كلّما اشتاق إليك الموقف الحرّ الذي ما كان يكتمل بغير لهجتك وأسلوبك أيّها الفلسطينيّ جدًا، والحرّ جدًا، والصادق.
كأنّه الدهر يا نزار وقد حلّ بين اليوم وبين ذاك الخبر. دهرٌ من الحزن المصحوب بالنقمة، بسيل من الأسئلة التي وإن كانت الإجابات عنها متوقعّة في بلادنا لكنّها تبقى عالقة في حنجرة القلب.
في أوّل مواجهة مع الخبر، تمنّى الكثيرون أن يكون الأمر مجرّد خطأ أو تسرّع من محرّر الأنباء وأنّك في المساء ستأتي وتخبرنا عمّا حدث. كلمات الشهود العيان حول طريقة اقتحام البيت، حول التهجّم عليك نائمًا، حول تفاصيل التعذيب القاتل وما تلاها من مشاهد وثّقت كيف جرّوا جسدك إلى الخارج، وكيف وضعوك في سيارتهم وذهبوا.. كلّها أعادتنا إلى “فيديو” كنت قد تحدثت فيه عن أساليب السلطة في التعاطي مع جرائم القتل. أوصيت يومها بأن لا يُعرض جثمانك على طبيب شرعي سيعطي تقريرًا يوهم حامله بأنّه ينصف القتيل، ويعطي هامشًا للمناورة كي ينجو القاتل “بالقانون”. عرضوا جثمانك على الطب، قالوا إنّ قتلك حدث عن طريق الخطأ، تخيّل. حتى أنّ وقاحتهم بلغت حد القول إن قلبك توقف فجأة وإنّ موتك لم يكن بسبب الضربات التي سددها الجبناء على رأسك وصدرك وأنت نائم.
منذ أيام، أيها العزيز الحرّ، أخلي سبيل قاتليك، بل منفذي جريمة قتلك التي خطّط لها وأمر بها من يحاضرون بالنضال بعد عشاء فاخر وسهرة أنس عند أقدام الصهاينة. أخلي سبيلهم ليس لبراءة من دمك لفّقها القضاء، بل بقرار من النائب العام، بقرار يقول لنا جميعًا إنّ دم نزار هُدر وليس من المنطق أن يحاكم القاتل نفسه ثمّ نتوقّع منه قصاصًا عادلًا!
في ذلك الفيديو قلت “اشتغل على أدلتك الظنيّة واستدّ إذا فيك!”. تُرى كيف “يستدّ” المرء في الحيّز المزروع بالألغام بين أن يكون قاتلك صهيونيًا واضحَ الملامح، وبين أن يكون القاتل من جِلدتك وقد قدّم دمّك قربانًا لأجل ترقية أو تنويه من “الكبار”؟ أتدري، منذ غيابك وكلّ عملية استهدفت صهيونيًّا كانت شكلًا من أشكال “يستدّ”، كلّ جرح أصاب الصهاينة كان بقصد أو بغير قصد ينتقمُ لدمك الفلسطينيّ النقيّ، النقيّ بشكل فضح كل التلوّث الذي أصاب من وُلدوا بدمٍ نقيّ وباعوه على طاولات التفاوض الذليل.
ننتظرك اليوم، في ذكرى اغتيالك، كي تأتي وتسلّم وتتبع سلامك بموقفك الراديكالي الأخّاذ من التطوّرات وإن كنّا نعرفه بالنظر إلى كلّ كلمة تركتها، نعرفه ولكن نفتقد إليه بصوتك أنت، بأسلوبك أنت، بحدّتك المحبّبة التي هدّدت رقاب من خانوا فأرادوا بقتلك بترَ السيف الذي به تنطق.
عامٌ طويل يا نزار، واللغة بخيلة في صياغة الشوق وفي ترجمة الفقد وفي قول ما يجول بخاطر الرّوح كلّما مرّت بك أو التجأت إليك ووجدت أن الخبر الذبّاح الذي تاريخه ٢٤ حزيران ٢٠٢١ ما كان كابوسًا اجتاح منامنا في ليلٍ غفوتَ فيه وما استفقت، بل كان حقيقة سافرة في بلادنا، بكلّ أسف. تاريخ نردّد فيه أن “لا فناء لثائر”، وأنّك أجمل وأعلى وأسمى من أن يفنى حضورك بالقتل. تاريخ نعود به إليك كي نمسح عن وجهك الحرّ علامات حقدهم، ونخبرك أن كلّ من أحبّك سيجد حتمًا طريقة لـ”يستدّ”.