موضوعية هوكشتاين الجندي في جيش العدو

هناك سؤال طرحه أحد الفلاسفة: هل الحقائق والأدلة هي التي تشكّل قناعاتنا أم أنّ القناعات التي نتعلّق بها هي التي تتحكّم بالحقيقة والدليل؟

سؤالٌ في منتهى الذكاء، إذ من خلال جوابه ستتمكّن من معرفة نية الباحث أو الكاتب أو المفاوض؛ هل النية هي الوصول لنتيجة حقيقية أم أنّها مجرّد مسرحية بطلها الأساسي المصلحة والقناعة الشخصية؟

كيفية تحكمنا بالحقائق والأدلة من منطلق قناعاتنا هي من أكثر المعضلات التي واجهت أصحاب الأقلام على مر التاريخ، إذ إنّ الموضوعية في الكتابة هي أهم سمات الكاتب الذي يريد من قلمه أن يكون لسان الحق للعوام.

إذا وقفنا بين صفحات التاريخ نجد أنّ الموضوعية غيّبت في كثير من الأحيان كُرمى للمصلحة الشخصية، فترى أنّ الظالم يصبح مظلومًا، والمظلوم ظالمًا، وفي بعض الأحيان نرى أنّ الكاتب يروي سرديته الخاصة للحدث مضيفًا رأيه المنحاز، تاركًا القارئ في دوّامةٍ من الفراغ عاجزًا عن معرفة الحقيقة؛ فقد قرأنا وعرفنا كيف أنّ النظريات والاعتقادات والميول تشكّل الطريقة التي نرى بها الواقع الذي على أساسه نتبنّى موقفنا، بدلًا من أن ندع الحقيقة هي ما يشكّل هذا الموقف.

في الخلاصة على الراوي، وكذلك على الكاتب والصحافي وناقل الخبر، أن يكون موضوعيًا، أمينًا في ما ينقله، لأنّه يشكّل حلقة وصلٍ بين الخبر والمتلقي. ولا تقف القضية عند هؤلاء الثلاثة بل تتعدّى لتشمل كل وسيط بين طرفين، فالوسيط أيضًا عليه أن يتمتّع بالموضوعية والإنصاف وعدم الانحياز لأيّ طرف لكي يستطيع أن يحكم أو يبدي رأيه بعيدًا عن مصلحة أحد الطرفين، وأن يبديه وفقًا لما يمليه عليه عقله الذي بيده الحقائق والوقائع.

على سبيل المثال، الحكم الذي يكون في مباراة كرة القدم والذي يمارس التحكيم بين فريقين عليه أن يكون عادلًا، يحكم وفق قواعد اللعبة لا وفق أهوائه، وما إن يخالف هذه القاعدة ويثبت عليه ذلك يعاقب من الجهات المعنية. إذًا قضية العدالة والموضوعية في الطرف الثالث هي محط إجماع لدى جميع القوانين أجمع، لأنّها تشكّل إحدى القضايا البديهية التي لا يستطيع أحد إنكارها.

يمر لبنان اليوم في حقبة ترسيم الحدود البحرية التي ستحدّد حقّه في المياه وما تحتها، بينما يقف في الطرف المقابل العدوّ الإسرائيلي الذي لا نعترف أصلًا بأيّ حقٍّ له، فهو المغتصب للأرض والماء والهواء، ولا يحق له أن يطالب بشيءٍ على أساسٍ باطل.

إلا أنّ الوضع قد وصل إلى هذه المفاوضات بناءً على إجراءات الدولة وبحكم الضرورة. وهنا نعود إلى طبيعة هذه المفاوضات التي لا بدّ من أن تكون عادلة كما ذكرنا سابقًا، الأمر المفقود في هذه المفاوضات التي يلعب دور الوسيط فيها الأمريكي المتلوّن. وهنا وبعيدًا عن الآراء الشخصية نطرح سؤالًا يقطع نصف الطريق، كيف للوسيط الأمريكي الجنسية أن يكون جنديًا سابقًا في جيش الاحتلال؟ ثمّ كيف لهذا الجندي الذي خدم من سنة ١٩٩٢ حتى سنة ١٩٩٥ في جيش الكيان أن يكون منصفًا مع عدوّه اللبناني إبّان خدمته العسكرية والذي لم يغيّره نظرًا للعقيدة القتالية لهؤلاء الجنود؟

نرى بذلك أن العدوّ جلس على الطاولة بلا جلبة مرتديًا بزّته المدنية، ناسخًا بهذه الحركة تاريخه المليء بالإجرام، متظللًا بلباس الأمريكي “المحايد”.

نعود للسؤال الأوّل الذي بدأت به المقال: هل الحقائق والأدلة هي التي تشكّل قناعاتنا أم أنّ القناعات التي تتعلّق بها هي التي تتحكّم بالحقيقة والدليل؟ والجواب في مثل هذه المفاوضات مع الوسيط الأمريكي هو أنّ الدليل والحقيقة هما مجرّد أرقام وصور وأوراق، ما يجعل من القناعة هي العامل الرئيسي فيها، فلقد جاء الأمريكي ليحقّق ما يريد وليحكم بما تراه عقيدته النفعية مناسبًا، وما يطمح له صديقه الإسرائيلي.

اساسياسرائيللبنانهوكشتاين