لم تكن مشكلة الدين العام جديدة في الأوساط اللبنانية، ولا ظاهرةً حديثة على الشعب اللبناني، بل هي بمثابة “عرف اقتصادي” تناقلته الأجيال جيلًا بعد جيل، كعبء والتزامٍ كُتبا عليها وهي لا ذنب لها بهما، بل إنها لم ترَ لأموال هذا الدين أثرًا يدل عليها، وربّما لن ترى.
الدين العام: محدد البداية ومجهول النهاية
نتيجةً للحرب الأهلية التي شهدها لبنان بين العام 1979 والعام 1993، وقعت الدولة اللبنانية في مرحلة العجز العام حيث فقدت السيطرة الكاملة على ايراداتها ونفقاتها، واضطرت للّجوء الى الديون الخارجية والداخلية لتمويل عجز الميزانية المتزايد في مناخ من التوترات وعدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي. بدأت هذه الديون بما يقارب ثلاثة مليارات دولار عام 1992 وواصلت الارتفاع الجنوني حتى بلغت الـ 99 مليار دولار في نهاية آب 2021، أي نحو 183% من الناتج المحلي الإجمالي وبارتفاع فاق الـ 95 مليار دولار خلال ربع قرن فقط، الأمر الذي جعل لبنان يحتل المرتبة الثالثة عالميًّا في حجم الديون المتراكمة عليه.
وخلال هذه المرحلة، مر لبنان بالعديد من المحطات المأساوية من حروب وتفجيرات وانهيارات ومؤخرًا قضية انفجار المرفأ وصولًا للانهيار الكبير عام 2020.
ولكن لم يكن السؤال الأهم المطروح يومًا، رغم ما تقدّم، عن حجم هذا الدين العام بقدر ما كان عن الأهداف المحققة منه، وعن المصالح الحقيقية للجهات المانحة الداخلية والخارجية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي.
صندوق النقد الدولي: آلة الدمار الكبرى
تتجه الأنظار اليوم الى الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين صندوق النقد الدولي والدولة اللبنانية والذي يقضي بإقراض لبنان نحو ثلاثة مليارات دولار في إطار صفقة مدتها أربع سنوات تستند الى برنامج إصلاحي شامل.
وبالطبع فإن لصندوق النقد الدولي المتمثل بدور الأب الحنون ومن خلفه الولايات المتحدة الأمريكية الراعي الرسمي لهذا الدور، أهداف عديدة جهنمية تكمن وراء إقراض لبنان وغيره من الدول هذه الأموال الطائلة، ولكن الهدف الأساسي خلف هذه العملية برمّتها هو إحكام سيطرة صندوق النقد ومن خلفه الولايات المتحدة الأمريكية على اقتصاد البلد المُقترض، وإحكام سيطرتهما على سلطة القرار فيه، ويتم ذلك عبر أدواتٍ وأطرافٍ عديدة بعضها داخلي والآخر خارجي، تكون مهمتها الأساسية العمل على تدمير مقومات الحياة فيه، وشلّه اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا حتى يلجأ في نهاية الأمر لطلب المساعدة من قارب الإنقاذ “صندوق النقد الدولي”.
ولبنان هو نموذج عن تلك الدول التي استهدفها صندوق النقد منذ سنوات حيث عمل على تدمير اقتصاده وإلغاء الطبقة الوسطى فيه وإلقائه في أحضان الفقر والانهيار. وقد تم ذلك بمساعدة أطراف عديدة لا سيما الداخلية منها، والتي تمثلت بأسياد سلطة الفساد والحرب التي حكمت لبنان منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ينضم إليها أيضًا النظام المصرفي المتمثل بكهنة مصرف لبنان وأتباعه من المصارف الفاسدة، حيث عمل هؤلاء جميعًا وبشكل ممنهج ومدروس على تدمير البلد منذ اندلاع الحرب الأهلية التي كانوا زعماءً لها، وتسلمهم السلطة من بعدها، وتطبيق مبدأ المحاصصة وتحويل الاقتصاد اللبناني الى ريعي استهلاكي على حساب القطاعات الانتاجية، فضلًا عن تحديد سعر الصرف، ومؤخرًا رفع كل أشكال الدعم خصوصًا عن السلع والخدمات الأساسية وتقليص حجم القطاع العام، وغيرها من السياسات التي أطاحت باقتصاد البلد.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن سلطة وعمل صندوق النقد الدولي لا ينتهيان بإعطاء القرض، بل يبدآن حينها تحت عنوان “المراقبة ما بعد البرنامج”، حيث تبدأ عملية رهن البلد وقراره السياسي والاقتصادي لهم بشكل كامل، وليس كما يروّج البعض للأسف من أن هذه الأموال ستؤدي الى نهوض لبنان مجددًا.
وأمام هذا الواقع، فإن الدولة اللبنانية اليوم أمام خيارين: إما أن تمضي قدمًا بالاتفاق المبرم مع صندوق النقد الدولي وترهن البلد وتتخلى عن ثرواتها النفطية لصالح الغرب وشركائه وتزيد بالتالي أزمة البلاد أكثر، وإما أن تأخذ قرارًا جديًا جريئًا بالنهوض الاقتصادي والتفلت من الهيمنة الأمريكية والغربية، وأن تفكر جديًا بتنويع خياراتها وفتح حدودها الشرقية والتوجه نحو دول جديدة كالصين وروسيا ودول آسيوية أخرى.
تقع الدولة اللبنانية اليوم في مصيدة أكبر آلة دمار عالمية، فاقت بخبثها وشرها كل أدوات الحرب والدمار التي شهدها التاريخ الإنساني. وإن كانت السلطة المتآمرة قد أوصلت البلد إلى مرحلة متقدمة جدًا من الانهيار، فإنه لا زال لدينا بصيص أمل للنهوض مجددًا، لكن المفارقة هنا أن هذا الأمر يحتاج إلى كلمة حق وجرأة موقف، ولكن يبدو أن معظم حاكمي هذا البلد لا زالوا عبيدًا بين أيادي الشر الأمريكية، والسلام على بلدٍ تحكمه ديمقراطية الشر وعبيدها.