إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من المعاناة والأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب في اوكرانيا التي تقودها روسيا ضد انتشار النازية الجديدة، بالتحالف مع حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، لوجدنا أن الاقتصاد العالمي بأكمله سيشعر بآثار تباطؤ النمو وزيادة سرعة التضخم. وسوف تتدفق هذه الآثار من خلال ثلاث قنوات رئيسية:
أولًا، ارتفاع أسعار السلع الأولية كالغذاء والطاقة سيدفع التضخم نحو مزيد من الارتفاع، مما يؤدي بدوره إلى تآكل قيمة الدخول وإضعاف الطلب. وثانيًا، الاقتصادات المجاورة بصفة خاصة سوف تصارع الانقطاعات في التجارة وسلاسل الإمداد وتحويلات العاملين في الخارج، كما ستشهد طفرة تاريخية في تدفقات اللاجئين. وثالثًا، تراجع ثقة مجتمع الأعمال وزيادة شعور المستثمرين بعدم اليقين سيفضيان إلى إضعاف أسعار الأصول، وتشديد الأوضاع المالية، وربما التحفيز على خروج التدفقات الرأسمالية من الأسواق الصاعدة.
وبما أن روسيا وأوكرانيا من أكبر البلدان المنتجة للسلع الأولية، فقد أدت انقطاعات سلاسل الإمداد إلى ارتفاع الأسعار العالمية بصورة حادة، ولا سيما أسعار النفط والغاز الطبيعي. وشهدت تكاليف الغذاء قفزة في ظل المستوى التاريخي الذي بلغه سعر القمح، حيث تسهم كل من أوكرانيا وروسيا بنسبة 30% من صادرات القمح العالمية.
ولفت منشور على موقع Inside Over، لكاتبه أندريا موراتور، الانتباه إلى نقص المواد الخام وارتفاع التضخم، الذي أدى إلى تقادم خطط مواجهة الأزمة، وأصبحت احتياجات الناس للإنفاق أكثر إلحاحًا.
ووفقًا له، فإن الاتحاد الأوروبي يواجه ركودًا، ولحل هذه المشكلة يقترح تقليص حجم الأموال في الاقتصاد. في الوقت نفسه، تنخفض الأجور ويبدأ الناس في الادخار كثيرًا بسبب ارتفاع معدلات التضخم. ومع ذلك، فإن أوروبا لا تقلل من اعتمادها على الغاز والنفط والنيكل والكوبالت والنيون وأي مادة خام أخرى، وتدفع لموسكو الكثير من المال، حيث نمت أسعار هذه الموارد بشكل كبير.
ويرى المؤلف طريقة للخروج من الأزمة فقط في البحث عن سياسة صناعية جديدة قادرة على جعل أوروبا مستقلة في قطاعات مهمة من الاقتصاد.
بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، صعّد الغرب من ضغوطه على موسكو. وأعلنت بعض الدول عن تجميد الأصول الروسية، وغادرت العديد من العلامات التجارية البلاد. وقد وافق الاتحاد الأوروبي بالفعل على ست مجموعات من العقوبات، التي تنص على وجه الخصوص على التطبيق التدريجي لحظر على استيراد الفحم والنفط.
وصف الكرملين تصرفات الغرب بأنها حرب اقتصادية لا مثيل لها. كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن سياسة احتواء وإضعاف روسيا هي استراتيجية طويلة المدى للغرب، وقد وجهت العقوبات ضربة خطيرة للاقتصاد العالمي بأسره. ووفقًا له، إن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة وأوروبا هو تدهور حياة الملايين من الناس.
ومن مؤشرات تنامي التداعيات السلبية لحرب أوكرانيا على الاقتصاد الألماني، ما أعلنته الحكومة في برلين (27 أبريل / نيسان 2022) بشأن توقعات النمو الاقتصادي خلال العام الجاري، إذ خفضت توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى حدود 2.2%.
تشاؤم دوائر صنع القرار الاقتصادي في برلين شمل أيضًا أسعار الاستهلاك، إذ استبعدت تراجعها على المدى المنظور، فيما سيستمر معدل التضخم في الارتفاع ليصل إلى 6.1%، وهو معدل نادر في ألمانيا ولم يتم تسجليه إلا في حالات استثنائية، كالفترة التي تلت توحيد الألمانيتين أو خلال الأزمة النفطية في سبعينيات القرن الماضي. ويذكر أن التضخم وصل إلى مستوى قياسي قدره 7.3% خلال شهر مارس / آذار الماضي.
ولفت عدد من التعليقات المنتقدة الى غياب استراتيجية واضحة للدولة الألمانية خلال العقود الماضية، من حيث السياسة الاقتصادية وتشابكاتها الخارجية. فقد بدا الأمر وكأن برلين وضعت بيضها في سلة واحدة وفوضت حاجاتها من الطاقة إلى روسيا وسلمت سياستها الأمنية للولايات المتحدة ونموها الاقتصادي للصين.
ويبدو أن برلين تسعى حاليًّا لتدارك أخطاء الماضي بالعمل على تقليل اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية. وزير الاقتصاد روبرت هابيك أكد (27 أبريل) أن نسبة واردات الغاز الروسي وصلت العام الماضي إلى 55% من إجمالي واردات الغاز، وتقلصت حاليا إلى 35% فقط، بعد أن بلغت نسبتها 40% في آذار/ مارس الماضي. وتسعى برلين إلى خفض حصة الغاز الروسي إلى حوالي 30% مع نهاية العام الجاري، وتعويض الفارق بشكل أساسي من خلال شراء الغاز الطبيعي المسال. غير أن مشكلة الاقتصاد الألماني لا تكمن فقط في الغاز ولكن أيضًا في استيراد مواد أولية أخرى من روسيا كما أوضح موقع “شبيغل أونلاين” (الثالث من أبريل): بالإضافة إلى الغاز الطبيعي، تعتمد الشركات الألمانية أيضًا على استيراد كميات كبيرة من الكروم والنيكل والبلاديوم من روسيا. لذلك يشدد المعهد الاقتصادي الألماني على ضرورة دفع اتفاقيات التجارة الحرة مع الدول الأخرى إلى الأمام”.
وما يجعل الوضع خطيرًا هو الحالة الصعبة للاقتصاد العالمي، بعد عامين من انتشار جائحة كورونا وأكثر من شهرين من الحرب في أوكرانيا، هناك مخاوف من احتمالات ركود شامل. شركات ألمانية مثل “باسف” التي اعتمدت بالكامل على الغاز الروسي الرخيص، تشتكي اليوم بصوت عالٍ. وهناك أيضًا مشاكل بالجملة في سلاسل التوريد العالمية. لقد أدى الوباء بالفعل إلى صعوبات خطيرة، حيث أصبحت أشباه الموصلات نادرة في جميع أنحاء العالم. وزاد الهجوم الروسي على أوكرانيا وكارثة كورونا في الصين من تفاقم الوضع. وبالتالي، فإن الطلب على سلع معينة موجود فعلا، ولكن هناك عرض أقل بسبب صعوبات الإنتاج، وهذا يؤدي بدوره إلى ارتفاع الأسعار.
كما تواجه بريطانيا أسوأ موجة ركود اقتصادي منذ السبعينيات نتيجة الحرب في أوكرانيا التي أوقفت خطط التعافي بعد فيروس كورونا وارتفاع أسعار الكهرباء والخدمات بعد حظر الغاز الروسي.
وقدرت منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، أنه باستثناء روسيا، يعد الاقتصاد البريطاني الأسوأ أداء بين اقتصادات دول مجموعة الـ20، بعد الحرب الأوكرانية وتمرير قانون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والمعروف بقانون “بريكست”. وتقول دراسة أوروبية حديثة إن الاقتصاد البريطاني خسر نحو 38 مليار دولار بعد مغادرة أوروبا.
وحسب خبراء اقتصاديين، فإن التخلي عن إمدادات الطاقة الروسية بشكل كامل يعني انكماشًا في اقتصادات أوروبا بنسبة 1.2 بالمئة، ويزيد من خطر دخول كثير من الدول الأوروبية في ركود اقتصادي العام المقبل وبينها بريطانيا.
من المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.1 % فقط هذا العام مما يشكل انخفاضًا من الـ 4% التي كانت متوقعة في كانون الثاني / يناير وذلك بسبب الحرب في أوكرانيا إلى حد كبير. هذا ما جاء في أحدث تقرير للأمم المتحدة عن الوضع الاقتصادي العالمي والتوقعات المرتقبة.
وتسببَ الارتفاع في أسعار الطاقة في صدمة للاتحاد الأوروبي، الذي استورد ما يقرب من 57.5 في المائة من إجمالي استهلاكه الطاقة في عام 2020. ومن المتوقع أن يشهد الاتحاد نموًّا اقتصاديًّا بنسبة 2.7 في المائة فقط، بدلًا من 3.9 في المائة.
يؤدي التضخم المرتفع إلى خفض الدخل الحقيقي للأسر. وهذا هو الحال بشكل خاص في البلدان النامية، حيث ينتشر الفقر ويظل نمو الأجور مقيدًا، في حين أن الدعم المالي لتقليل تأثير ارتفاع أسعار النفط والغذاء محدود.
كما أن ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة له آثار إضافية على بقية الاقتصاد مما يمثل تحديًا للتعافي الشامل بعد الجائحة حيث تتأثر الأسر ذات الدخل المنخفض بشكل غير متناسب.
بالإضافة إلى ذلك، فإن “التضييق النقدي” من قبل الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، وهو السلطة المصرفية المركزية في البلاد، من المقرر أيضًا أن يرفع تكاليف الاقتراض ويزيد فجوات التمويل سوءًا في الدول النامية، بما في ذلك أقل البلدان نموًا في العالم.
بدوره حذر البنك الدولي من أن البلدان في جميع أنحاء العالم تواجه ركودًا، حيث تضرب الحرب الروسية الأوكرانية الاقتصادات التي هزتها بالفعل جائحة كورونا. وقال البنك إن الدول الأقل نموًّا في أوروبا وشرق آسيا تواجه “ركودًا كبيرًا”. وأوضح رئيس البنك الدولي، ديفيد مالباس، أن مخاطر التضخم المرتفع والنمو المنخفض – ما يسمى بـ”الركود التضخمي” – تزداد، مشيرا إلى أن فواتير الطاقة والغذاء آخذة في الارتفاع في جميع أنحاء العالم.
وقال مالباس: “الحرب في أوكرانيا، عمليات الإغلاق في الصين، اضطرابات سلاسل التوريد، وخطر التضخم المصحوب بالركود، كل ذلك يضر بالنمو. بالنسبة للعديد من البلدان، سيكون من الصعب تجنب الركود”.
وأضاف مالباس أنه بين عامي 2021 و 2024، من المتوقع أن يتباطأ النمو العالمي بمقدار 2.7 نقطة مئوية، أي أكثر من ضعف التباطؤ الذي شوهد بين عامي 1976 و1979، عندما شهد العالم آخر مرة ركودًا تضخميًّا.
وحذر التقرير من أن الزيادات في أسعار الفائدة اللازمة للسيطرة على التضخم في نهاية السبعينيات كانت حادة للغاية، لدرجة أنها أدت إلى ركود عالمي في عام 1982، وسلسلة من الأزمات المالية في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية.
واشارت المحللة أولغا ساموفالوفا، في صحيفة “فزغلياد” الروسية في مقال، الى كون مقدمات الأزمة الاقتصادية العالمية سابقة للعملية الروسية. وقالت: يتهم البنك الدولي روسيا بشكل مباشر بالتسبب بأكبر تباطؤ اقتصادي عالمي منذ 80 عامًا. ومع ذلك، من الواضح أن الغرب يبالغ بدور الاقتصاد الروسي، السادس عالميًّا، في وضع الاقتصاد الأميركي على كف عفريت.
تشير الإحصاءات إلى أن المشكلات الاقتصادية في الدول الغربية المتقدمة بدأت قبل وقت طويل من بدء العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا. وبعد ذلك، أجهزت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على اقتصاداتهما بالعقوبات القاسية التي فرضوها على روسيا.
وهكذا، ارتفع التضخم في الولايات المتحدة بشكل حاد وأصبح مشكلة منذ العام 2021. فقد قفز العام الماضي إلى 7٪ مقابل 1.3-2٪ في الفترة من 2010 إلى 2020. وأما حاليًّا، فيبلغ معدل التضخم في الولايات المتحدة 8.5٪. وفي الاتحاد الأوروبي، ارتفع التضخم أيضا العام الماضي إلى 5.3٪ مقابل 2٪ في العام 2020. أما الآن فقد وصل إلى 8٪.
“ثمة دور كبير في التضخم لعبته الدول ذات الاقتصادات المتقدمة، والتي ملأت الأسواق المالية، أثناء الوباء، بالسيولة، ولم تتمكن هذه الأسواق بعد ذلك من “هضم” المال بفعل تراجع الطلب أو العرض المنخفض نسبيًّا. فما يقرب من 70٪ من الدين العالمي يقع على عاتق الاقتصادات المتقدمة”، كما قالت الأستاذة المساعدة في قسم مالية الحكومات والبلديات في جامعة بليخانوف الاقتصادية، ايلينا فورونكوفا.
“العقوبات الغربية ضد روسيا توجت المشاكل الاقتصادية التي خلقها الغرب. فلماذا تؤذي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي نفسيهما بفرض عقوبات على روسيا تضرب اقتصاداتهما؟ فهناك، في الواقع، في قيادة الدول الغربية، أيضًا اقتصاديون أذكياء يفهمون العواقب تمامًا”، بحسب رئيس قسم التحليلات في AMarkets، أرتيوم دييف. وهو يرى أن العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا والعقوبات ليست سوى ذريعة جيدة للغرب للعثور على “المذنب” في الأزمة الحتمية التي تسببوا بها، حتى لا يتم توجيه الاتهامات إليهم. بنك الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي هما المسؤولان عن الأزمة.