كثيراً ما بات يسمع اللبناني بعناوين مكافحة الفساد والاصلاح الاداري وتعزيز الشفافية والنزاهة، ولكن لا يستطيع ان يلمس باحدى حواسه مبتدأً او خبراً لهذه العنوان سواء في الواقع الحالي او المدى المنظور، فاللبناني يعلم ان هناك فسادا وذلك بسبب نتيجة افضت الى افلاس البلد وغرقه في دين تجاوز ١٠٠ مليار دولار، وغياب الكهرباء و الطرقات والانتاجية.
ولكن في علم الادارة العامة تعتبر هذه نتائج لمقدمات متراكمة وحكومات متعاقبة، بغض النظر عن الوصايات الدولية بعد انتهاء الحرب الاهلية، التي فرضت حالة هدنة بين اللبنانين ولكن في الحقيقة شكلت مكسباً للكثير من الفعاليات السياسية بعناوين ظاهرها طائفي وخفاياها شخصية، وهذا ما يعبر عنه بالفساد الذي له اسباب متعددة، ابرزها غياب الرقابة القضائية والبرلمانية او بمعنى اخر وقوف الحكم والمحكوم في صف واحد اذا لم يكن شخصاً واحداً، وكذلك حالة الهدنة الاهلية التي فرضتها الوصاية السورية في مطلع التسعينيات حيث استباحت الادارة والقطاعات ووزعت ما بقي منها كعمولات على اصحاب القرار الحكومي. ولكن هذا الفساد لم يقتصر على حقبة الوصاية السورية الدولية التي امتدت فترة ١٥ عاماً، فبعد اغتيال الرئيس الحريري وانسحاب الجيش السوري معلنا رفع الوصاية السورية عن لبنان، كان النافذ السياسي اللبناني قد تدرب على التجاوزات الدستورية والقانونية والتغلغل الفاسد في الاداراة والحكم بعناوين توافقية، فانزل وصاية التوافق الحكومي الطائفي بدءا من صفقات الكهرباء والاتصالات والمباني وصولاً الى التعيينات حتى في حراس الاحراش والفئات الخامسة من نظام الموظفين العموميين.
واصبح تغلل الفساد امراً لا مفر منه لا بل اصبح هو القانون وهو الشريعة نظراً لانتسابه الى قرار الطائفة والتوازنات المذهبية، فبعد التعيينات التسعينية التي تمت تحت عنوان استيعاب الميليشات وهذا امر طبيعي في بلد كل مواطنيه كانوا رواد محاور وحملة سلاح ابان حرب دامت ١٥ عاماً كي لا نقع في تجربة اجتثاث البعث في العراق بعد سقوط صدام حسين التي اخرجت كل الفعاليات الادارية من الحكم وعادت بالعراق الى عصر لم يشهده منذ عقود، ولكن الامر غير الطبيعي هو الذي سبب بشكل من الاشكال هدر المال العام وتسرب ايرادات الدولة وهو فائض الموظفين في الدائرة نفسها حيث اعتبر لكل مركز وظيفي له بين ٣ و ٥ موظفين والمهمة امضاء ورقة حضور يومي وقبض راتب شهري من المال العام، فكان من الاجدى برجال الدولة استيعاب الميليشات في دورات تاهلية بالدرجة الاولى وجعلهم قياديين في مناصبهم الادارية وتحديد الاعداد المناسبة للوظائف في كل دائرة وقطاع والعمل على تطوير الموارد البشرية للموظف العمومي وتحسين التنمية الادارية والانفاق عليها باعتبارها امرا منتجا في المستقبل، ومن ثم الذهاب مباشرة الى خلق فرص عمل من خلال انشاء معامل ومصانع ودعم الزراعات الموسمية والدائمة التي يشتهر بها لبنان وخلق معامل للصناعة الزراعية وبالتالي تطوير التجارة فيها وجعل الاقتصاد اللبناني اقتصاداً منتجا ومصرفاً لانتاجه بشكل ينافس المنتوجات المجاورة في المنطقة، بدل منح معاشات لتضخم وظيفي غير مسبوق بتاريخ الدول.
اما وأن ما حصل قد حصل فعلينا الان وبعد دراسة شكل الفساد وتشخيص الازمة الادارة التي تبدأ بالنظام الطائفي المعيب ولا تنتهي بالمحسوبيات والتوافق على الصفقات وذلك بسبب عدم فصل السلطات بين القضائية والبرلمانية والتنفيذية، الا اننا نحتاج لوضع تصور بخطوات متزامنة ومرحلية لمعالجة الفساد الاداري حسب توصيفنا المسبق من خلال التالي:
١- اعادة هيكلة القطاعات كافة من راسها حتى اخمص قدميها والبقاء على الخبرات للعب دور انتقالي في مرحلة التسلم والتسليم الاداري.
٢- منح مجلس الخدمة المدنية الحق الحصري باجراء التعيينات والتوظيفات وفق مباريات يعلن عنها تدريجياً لكل اختصاص باختصاصه والبدء من الاعلى في الفئات الاولى والثانية حتى الاسفل وليس العكس.
٣-الهيئات الناظمة؛ اعتمادها في كافة القطاعات الكبرى التقنية خاصة كالكهرباء والاتصالات مروراً بالقطاعات الصناعية والزراعية والقطاع المصرفي والنقدي وباقي المرافق العامة كالجامعة اللبنانية وادارة مطار بيروت تقنياً ولوجستياً، وذلك لان من اهم ايجابيات الهيئات الناظمة هو اعتمادها على عناصر الخبرة والاختصاص وقراراتها تكون بحت تقنية لصالح حسن ادارة وتطوير القطاع، وعليها يعول وقف الهدر التقني وغير التقني.
٤- تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص وذلك مع تعزيز شفافية ونزاهة العلاقة بينهما فيجب رفض كل الشركات الخاصة التي يكون مالكها شخصا له صلة بالشان العام.
٥- لا لخصخصة القطاعات الانتاجية ولا لبيع املاك الدولة ولكن مع اجراء عقود B.O.T ولفترات لا تتجاوز ١٠ سنوات كحد اقصى حتى تستعيد الدولة احقية ادارتها وتشغيلها للقطاع بعد تأهيله من قبل الشركات المتعاقدة او الدول المتعاقدة .
٦- اعادة انشاء وزارة تخطيط بعد الغائها عام ١٩٧٧ في عهد حكومة الرئيس رشيد كرامي حيث تم استبدالها بمجلس الانماء والاعمار وكان هدفه اعادة اعمار ما هدمته حرب السنتين، ولكن توسعت مهامه بعد اتفاق الطائف ليصبح اعادة اعمار ما هدمته الحرب الاهلية لا سيما مع مجيء رفيق الحريري الى السلطة التنفيذية وجعله الجهة المخولة الاعمار برئاسة الفضل شلق ولكنه لا يغني عن وزارة التخيط والتصميم لرسم السياسات العامة للدولة والتنسيق التكاملي بين القاطاعات كافة لا سيما التربوية والمهنية والصناعية والزراعية والتجارية، مستنداً الى المجالس الاستشارية كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي له دور فعال برسم السياسات العامة وتقديمها لرئاسة مجلس الوزراء عند الطلب، لكن اذا وجدت وزارة التخطيط سيتفاعل دور المجلس بشكل اكبر في رسم السياسات.
٧- تفعيل دور الهيئة العليا للرقابة على المناقصات وعدم وضع شروط خاصة بكل مناقصة تكون على مقياس الشركات المحسوبة على السياسيين والحكام كالمهل التعجيزية وعدم تعديل سنوات الخبرة.
لا نستطيع ايجاز اليات الاصلاح الاداري في مقال واحد فذلك يحتاج الى العديد من المقالات المتتالية ولكن هذه بعض العناوين الاساسية وهي تشكل المنطلق الاول في مسيرة الاصلاح ومكافحة الفساد، لا سيما وأن الدول الكبرى تنظر للدول في مدى شفافيتها ومسارها في سكة الحوكمة والادارة الرشيدة، فعليه تصبح معاني التوازنات الطائفية امراً متخلفاً امام الرقابة الدولية ولا سيما الدول المانحة بالقروض الميسرة، فنحن لا ندعي ان الدول الكبرى والبنك الدولي والاتحاد الاوروبي هي جمعيات خيرية لا بل لها مصالح بالحد الادنى الاستثمار ولكن يريدون تطمينات تشجيعية ليس اولها تشكيل حكومة تضع برنامجاً اصلاحياً مرتقباً يبدأ بالثقة الدولية بلبنان وسياسييه، ولكن اذا بقيت الحكومة نفسها غير مرتقبة يبقى الاصلاح كذلك.