قد يكون من الخطأ قراءة ممارسات العدو وتحديدًا مسيرة الأعلام في نسختها الحديثة القائمة على التجرؤ على المقدسات والتطرف في الاعتداءات بشكل لم يحدث منذ تدشينها المشؤوم في أعقاب نكسة العام 1967 تعبيرًا عن احتلال كامل القدس، في سياق أحادي البعد يتعلق باستعراض القوة أو حفظ هيبة الحكومة الإسرائيلية أمام المستوطنين وكسب اليمين الديني في صفها.
ونرى أن القراءة الصحيحة، لا بد من أن تتطرق لأبعاد تتعلق بتوظيفها استراتيجيًّا لمصارعة انجاز سيف القدس، من جهة، ومن جهة أخرى أبعاد تتعلق بالقدس ذاتها والتوظيف في محاولة تصفية القضية برمتها.
وقبل التطرق للمصارعة الاستراتيجية بين المسيرة وسيف القدس، وسياسات العدو لتوظيف القدس في تصفية القضية يجدر أن نورد بعض الملاحظات:
ا- لا بد من الاعتراف وتحت لافتة “اعرف عدوك” بأن العدو يجيد القراءة الاستراتيجية، ويجيد أيضًا المصارعة الاستراتيجية، وأن التهديد الوجودي الذي يشعر به العدو من محور المقاومة، وتحديدًا ايران وحزب الله، لا يتعلق فقط بتوازن الردع الذي حققته المقاومة في لبنان، بل يتعلق أيضًا بأن المقاومة أجادت المصارعة الاستراتيجية وصياغة المعادلات واستطاعت فرض قواعد اشتباك بشكل استراتيجي متدرج.
2- مصداقية المقاومة شكلت العمود الفقري لقوتها، حيث اعتمدت المقاومة اللبنانية على جناحين، أولهما الغموض البنّاء بإيثار الصمت في كثير من الملفات بشكل أربك العدو وحساباته، وثانيهما الوعد الصادق، بعدم قطع وعود أكبر من قدرات تنفيذها، والوفاء بأي وعد أو تهديد ألزمت به نفسها، وهو ما عزز الردع وجعل من بيانات المقاومة وخطابات السيد نصر الله وثائق معلوماتية تخلو من أية شعارات جوفاء.
ولا شك أن العدو في إطار حربه مع حزب الله، يهدف لهدم هذه المصداقية، بطرق التفافية كثيرة منها خلط العديد من الملفات. وهذا يشكل مدخلًا للحديث عن مصارعة انجاز سيف القدس وتوظيف المسيرة لأهداف أكثر عمقًا:
أولًا: كان جوهر إنجاز سيف القدس هو ربط غزة بالقدس، وخلق معادلة اشتباك مفادها صواريخ غزة في مقابل العدوان على المقدسيين والمقدسات.
وقد تحدث السيد نصر الله عن هذا الانجاز الاستراتيجي، واستخلص جوهره، بأن العدو كان دومًا يكرس الفصل بين غزة والقدس، بينما ربْط صواريخ غزة بالعدوان على القدس هو التحول الاستراتيجي الذي يجب تثبيته، ونادى السيد نصر الله فصائل المقاومة وناشدهم الحفاظ على هذه المعادلة التي تفتح آفاقًا جديدة لصالح القدس ولصالح القضية.
وهنا حاول العدو بشكل متدرج أن يفرغ الانجاز من جوهره، عبر انتهاكات متكررة خبيثة، لا يصل بها لحدود تشعل الحرب ولكنها تكسر المعادلة محاولا افقاد المقاومة الفلسطينية مصداقيتها.
ثانيًا: يحاول العدو عبر اصدقائه وأذنابه من المطبعين وبعض الحركات السياسية المعادية للمقاومة، أن يوحي بفقدان مصداقية المقاومة في لبنان عبر دعايات انتشرت تنتقد عدم تدخل حزب الله رغم أن الحزب لم يقطع وعدًا يخص المسيرة، بل قطع وعدًا بتحرك جماعي في حال نشوب حرب دينية وعدوان صريح على المقدسات، أما قرار مقاومة المسيرة وتجاوزاتها على المدينة والمقدسيين فهو حصرًا بيد فصائل المقاومة الفلسطينية ومتروك لهم قرارها.
وهنا حاول العدو عمل اقتحامات استفزازية بهدف وضع اشارة بدء لانطلاق الدعايات ضد محور المقاومة ككل.
ثالثًا: لا ينبغي فصل المسيرة والإصرار على مسارها وتجاوزاتها عن الوضع الإقليمي، حيث تتزامن مع توسع في التطبيع مع حكومات جديدة، وهو ما يعني ضمنيًّا أن هذه الحكومات لا تربط علاقاتها بالعدو بملف القدس، وأن لقاءات بينيت مع الزعماء العرب التي سبقت المسيرة، والتي من المقرر أن تتبعها في مؤتمر جماعي مرتقب مع الرئيس بايدن في زيارته الشهر القادم للمنطقة، تكرس اعترافًا امريكيًا عربيًا بالأمر الواقع الذي حرص بينيت على إعلانه تزامنًا مع المسيرة بأن القدس عاصمة موحدة وأبدية لكيان العدو.
رابعًا: يعلم العدو أن القدس تشكل هوية جامعة للشعب الفلسطيني في غزة والضفة والقدس، وتشكل حلقة الوصل الرئيسية بين الشعوب الاسلامية والقضية الفلسطينية، وبالتالي يهدف إلى زراعة اليأس وتكريس منطق الكانتونات الفلسطينية دون رابط، وكذلك قطع الارتباط الخارجي بالقضية.
خامسًا: وهو الأخطر، حيث يتلاعب العدو بمفهوم الخطوط الحمراء، وذلك بالتعاون والتنسيق مع الوسطاء في التهدئة والحيلولة دون التصعيد، حيث تمت ازاحة الخط الأحمر من كونه عدوانًا على المقدسيين وتهويد للقدس، إلى خط متقدم يصعب تنفيذه وهو هدم قبة الصخرة والتلويح به، وهو ما يعني تكريس التهدئة حتى في حالة تهويد القدس ما لم يتم هدم القبة، وهو ما يستوجب فطنة فصائل المقاومة وعدم انجرارها لهذه الخديعة.
وهنا يلعب العدو بالنار، وهو ما يفرض ردًّا استراتيجيًّا يليق بهذه المصارعة الاستراتيجية. وما نراه هو العودة الفورية لتثبيت معادلة سيف القدس، وردّ القضية لأصلها، بأن تكون صواريخ غزة حاضرة في حماية أي عدوان على المقدسيين وأي انتهاك لحرمة القدس، أما الخط الأحمر الوهمي بهدم القبة، فمحور القدس كفيل به، ولن يقدم العدو على انتهاكه ليقينه بمصداقية حزب الله ومحور المقاومة.