ثمّة هويّات وثقافات مختلفة بين شعوب العالم، ربّما هذا الشيء الوحيد الذي تتوارثه الأجيال، وبالطبع بين هذه الهويّات والثقافات اختلاف في ظروف النشأة، كما أنّ الاختلاف موصول إلى زمان الولادة، فمنها ما هو مولود منذ قرون من الزمن ومنها ما هو حديث الوجود، وبالكاد هي تسمّى ثقافة أو هويّة، إذ لا تزال قيد التجربة والاختبار.
لتنامي القوّة الأمريكية في القرن العشرين على المستويات كافة لا سيما العسكرية والاقتصادية والإعلامية الدور في جعل الكثيرين في حالةٍ من الانشداد لهذه القوّة وفي حالةٍ من الانبهار أيضًا، إضافة لحالةٍ من الانهزام أمامها، خاصة في الدول العربية، وهذا ما يبدو جليًّا في ما تظهره وسائل إعلامها، المصرية منها والخليجية وغيرها.
ربما عامل القوّة هو الذي جعل من العربيّ العريق يتغلغل بلا وعيه في النموذج الأمريكي، تاركًا إرثه الذي لا يبدّل بثمن، غافلًا عن كون هذا النموذج يتنافى وما يحمله من مفاهيم وقيم ومبادئ، وكون هذا المجتمع يتعارض في بعض الأحيان مع ثقافته وهويته العربية أوّلًا، والإسلامية ثانيًا، لذلك يجد نفسه أمام خياره الجديد وهو “ثقافة جديدة”.
ربّما هذا التغيّر الحاصل بدافعٍ من اللاوعي يُضمر في طيّاته الكثير من الدوافع العقلية “السطحيّة”؛ فهي ليست غريزية كما يقولون، بل مدروسة ومتقنة، إلا التي تنبع عن عقد نفسية تُشعر حاملها بالدونية أمام التفوّق الأمريكي. وهذه الدوافع العقلية ما هي إلا نتاج قاعدة فلسفية قد لا يلتفت إليها صاحبها أصلًا.
إنَّ هؤلاء المنبهرين بالنموذج الأمريكي ويريدون تعميمه هم واحد من الفئات التالية:
- الفئة الأولى: النفعيون أصحاب المصالح المباشرة، والذين يرون في علاقتهم مع أمريكا مكسبًا اقتصاديا لهم.
- الفئة الثانية: هم الذين يرون أمريكا وكأنّها مدينة فاضلة، متأثرين بوسائل الإعلام التي تعكس هذه الصورة، غافلين عن كون المثالية المزيفة إنما هي التي صنعت الشقاء والحرمان في بلدان العالم الثالث، والتي غالبًا ما ينتمي إليها أصحاب هذه الفئة.
- الفئة الثالثة: المغتربون في أمريكا الذين تطبّعوا بالأمريكية، وانسلخوا عن أصلهم وعربيّتهم، وليس كل مغترب في أمريكا على هذه الحال.
ربما هذا التأثّر يعود بشكلٍ كبير كما ذُكر للتأثّر الإعلامي الهائل والحاصل لدى المتابع الموصول بالتلفاز والإنترنت وشركات الإنتاج التي تسيطر عليها أمريكا بشكلٍ شبه كامل، ولذا فالفئتان الثانية والثالثة هما ضحية إخراج الصورة النهائية لنموذج يخفي في جلبابه ظلامًا حالكًا من القبائل الهندية المبادة، وصولًا لأنظمة الرق والعبودية حتى السيطرة الاقتصادية الوقحة على مصادر الطاقة بالبطش والحروب، والمساهمة في نشوء الحرمان والاستضعاف في نواحي العالم.
امتلاك أمريكا اليوم للثروات لا يُنسي قارئ التاريخ كيف حصلت عليها، فالبلد العائم على قارة كاملة غنية بالموارد الطبيعية ما هو إلا مغتصب لحقوق الشعوب الأصلية في تلك الأرض، فـ”الأرض الجديدة” ليست جديدة إلا في عرف البراغماتية الأمريكية؛ فهي التي جرّدت الشعوب الأصلية من أرضها بعد أن أحدثت فيهم مجازر مؤلمة تنم عن وحشية الإنسان ضد أخيه الإنسان فقط،
تلك التي تكلّم عنها الكاتب السوري الأمريكي منير العكش في كتابه “أمريكا والإبادة الجماعية”.
ثمّة تشابه بين الحركة الإنجيلية الأمريكية والحركة الصهيونية من حيث العقلية الفلسفية التي تشرعن للإنسان الاستعلاء في الأرض والفساد والإفساد فيها، وما الدعم الأمريكي اليوم لإسرائيل إلا امتداد لما فعله الأجداد وفقًا للرؤية الاستكبارية التي يحملونها، ومن هنا فإنَّ شيئًا ما في نفس المواطن الأمريكي يجعله متعاطفًا مع الحجج الصهيونية، إذ يرى فيها ترديدًا لنفس الحجج التي قامت عليها بلاده، والتي كان يستخدمها أجداده في إبادة الهنود الحمر، “فهناك عنصر مشترك بين التكوين العقلي والنفسي للإنسان الأمريكي والإنسان الصهيوني هو إيمان بأنّ الأرض ينبغي أن تنتمي إلى من يعرف كيف يستغلها إلى أقصى حد، أما صاحبها “فليذهب إلى الجحيم” كما يعبّر الكاتب المصري فؤاد زكريا.
كان أمام الأمريكي الإنجيلي “القادم من بريطانيا” كل شيء مجهزًا أمام طموحاته في الفساد والتوسع والاحتلال، فالمصلحة أعلى من أي شيء، وأرفع من أي قيمة إنسانية تُذكر!
إلا أنّ “عقبة صغيرة” اعترضت الإنسان الذئب في طريقه لبناء نموذجه “الحضاريّ” للعالم، وهو أنّ في هذه الأرض سكانًا منذ آلاف السنين، وكان القرار بالتخلص منهم، ثمّ إسدال ستار من الصمت والنسيان على تلك الحقيقة “الصغيرة” المزعجة!