ما بَرِحَت دول أوروبا، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، موطن التبعيّة المطلقة للولايات المتّحدة الأميركية. تلك الأرض التي حَوَت امبراطوريات عُظمى عبر التاريخ، وصدّرَت جزءًا من حضارتها نحو كثير من بقع الأرض، أضحَت جزءًا من مشروعٍ امبراطوريٍّ جديد، وارتَضَت لنفسها أن تكون تابِعةً لأميركا وأداةً لِتَنفيذ مشاريعها.
استعمرت أوروبا بلادنا، وشاركت في إعداد كياناتها. قتلت أصحاب الأرض، سرقت مواردهم، ووقفت عقبة في طريق تقدّمهم، بل حاربت حضارتهم وثقافتهم في كل اتجاه.
في رسالةٍ وجّهَها الرئيس عبد المجيد تبون إلى الشعب الجزائري، لمناسبة الذكرى الـ75 لمجازر الثامن من أيار 1945، التي ارتكبها جيش الاستعمار الفرنسي بحق المتظاهرين الجزائرين الذين خرجوا للمطالبة باستقلال بلدهم، وذهب ضحيّتها 45 ألف شهيد بدمٍ بارد، قال الرئيس إن الاستعمار الفرنسي قتل أكثر من نصف الشعب الجزائري، أي حوالي 5 ملايين ونصف المليون مواطن في ذلك الوقت، لكن باريس تطالب “بِطَي صفحة الماضي، والتوجّه نحو المستقبل”! هكذا، وكأن لا قيمة للإنسان الذي قُتِل وسُفِكَت دماء أطفاله ونسائه.
وعند أعتاب القرن الماضي، بين عامَي 1904 و1908، ارتكب الاستعمار الألماني أبشع المذابح بحق مواطني شعوب “هيريرو” و”ناما” في “ناميبيا” الأفريقية، في ما اعتُبِرَ لدى بعض المؤرّخين أنها أول إبادة جماعية في القرن العشرين، حيثُ قُتل حوالي الـ70 ألفًا، ونُفي إلى الصحراء الآلاف الذين قضَوا عطاشى هناك.
هذه نبذة عن بعض السلوك الاستعماري الأوروبي الذي عانت منه شعوبنا، شاركت من خلاله أوروبا بتفتيت طموحات الشعوب وسفك دماء الأبرياء والضحايا منه.
أما جريمة العصر التي ارتكبتها الأُمَمُ الغربية في منطقتنا، وعلى رأسها الأوروبية منها، فهي إعداد المناخ الملائم لإنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ورسم طموح مستقبلي للسيطرة على مدّخرات المنطقة المُمتَدّة من النيل جنوبًا، إلى الفرات شمالًا، وما بينهما من بلادٍ تقع بالأصل تحت سلطة الاستعمار العالمي، والذي كان يتمثّل في الربع الثاني من القرن العشرين بالاستعمار الفرنسي والبريطاني، بحسب التقسيم المُتَّفَق عليه بعد هزيمة السلف العثماني.
لم يكُن دور الدول الأوروبية الكُبرى ثانويًا في مسار إنشاء الكيان الصهيوني، إنما كان لبعض تلك الدول، وخصوصًا بريطانيا (وهي خارج الاتحاد الأوروبي حاليًا لأسباب مصلحيّة)، الدور الراعي والمُخطِّط. بريطانيا هذه، التي نظرت باكرًا “بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”، كما جاء في البيان التي أصدرته الحكومة البريطانية عام 1917، أي أثناء استعار الحرب العالمية الأولى وسقوط مئات آلاف الضحايا جرّاء تلك الحرب. ويضيف البيان أن “حكومة صاحب الجلالة ستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية”. وبهذا الوعد، الذي أُطلق عليه اسم وعد “بلفور” نسبة إلى وزير الخارجية البريطاني آنذاك، كانت بداية قصّة الصراع المرير، الذي سلب فلسطين من أهلها وأهداها للصهاينة غير آبهٍ بملايين الناس التي ستترك بلادها وتُهجَّر بعيدًا عن الأوطان.
لماذا تم ذكر وعد بلفور؟ بكل بساطة لأن إنشاء هذا الكيان الإجرامي شكّل العائق الأساسي، وربما الوحيد، في وجه شعوب الأمة واستقلالها ونموّها وتقدّمها ورفاهيّتها. وببساطةٍ أوضح، إن هذا الكيان قضى على طموحات أمّتنا، وأصبح من الواجب اقتلاعه كي نبقى على قيد الحياة.
كان لا بدّ لنا قبل أن ندخل في صلب موضوعنا اللبناني، أن نمرّ على تلك الأحداث المذكورة، تَتَبُّعًا لفَلسفة الأحداث التاريخيّة وتأثيرها على فهمنا للواقع الذي نعتاشه وأحداثه والتّبعات المتوجّبة. فنَحنُ نعيش في عالمٍ متشابِك، يؤثّر كل مسارٍ فيه على آخر، وكل الأحداث الراهنة، إذا تَتَبَّعنا أصولها، نلمس أن طبيعة الصراع التي تحكم التاريخ منذ آلاف السنين واحدة، وكل ما دونها تكتيكات وأساليب تخدم الصراع الشامل.
كان للبنان نصيبه الوافر من الهيمنة الأوروبية قبل الحرب العالمية الثانية، وبعدها. وحين بدأت المشاريع الأميركية بالهيمنة، كان الأوروبيون أداةً ضمن مشروعها، يخدمون مصالحها ضمن هوامش موضوعة وخطوطٍ حُمرٍ مَرسومة بعناية، سار الأوروبي دونها. وحتى مبادراته تجاه لبنان كانت تحكمها السياسات الأميركية وتندرج ضمن خياراتها وسياساتها العامة.
لطالما تكَلَّلَت المبادرات الأوروبية في لبنان بالشروط السياسية المُسبقة، إلا ما ندر من الحالات، أو بالمساعدات العينية التي تُعتبر صغيرة، وتمّ استغلال الأزمات المتلاحقة على لبنان، لنيل مكتسبات سياسية، خصوصًا في ميدان الصراع مع العدو الصهيوني، وطبعًا في ما يصبُّ في خدمته. وحين تنوي دولٌ من أوروبا إطلاق مبادرات اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية، دائمًا ما تصطدم بالرؤية السياسية الأميركية والفيتو الذي تضعه فوق خطوطها الحُمر. وما مبادرة الرئيس الفرنسي ماكرون الأخيرة (والتي تصبّ بداية في المصلحة الفرنسية والشخصية لرئيسها)، أواخر عام 2020، إلا أحد الأمثلة الحيّة والقريبة، حينما عرقلت أميركا مسارات الحلول، بمعاونة الكثير من الدول الأوروبية الأساسية، منها ألمانيا وبريطانيا، وأدرجت الشروط السياسية ضمن رسائلها إلى الجهات الفاعلة في لبنان، تضمن المُناداة إلى الاستسلام للشروط الأميركية، والتخلّي عن نقاط القوة لدينا، لتُدفق علينا المساعدات والأموال و”الخيرات”.
وفي الأزمة السياسية الأخيرة، التي نتجت عنها مآسٍ اجتماعية واقتصادية ومالية، حاولت الدول الأوروبية استغلال العوَز لتحقيق أهدافها السياسية، وعلى رأسها انتزاع عناصر القوة من لبنان، والمتمثّلة بدايةً في المقاومة التي تحميه وتُرسي اتجاه عدوِّه أعظم معادلة ردعٍ لم يُرَ مثيل لها في هذا البلد الصغير. وكانت جميع المحاولات تصبّ في حماية “اسرائيل”، ومقايضة اللبنانيين بإطعامهم مقابل إضعافهم وجعلهم لقمة سائغة يشتهيها من يشاء ويعبث بها.
هذا السلوك الأوروبي بدأ باكرًا، حينما بدأ الصراع المباشر بعد احتلال العدو الصهيوني أرضنا الحبيبة، وقد أتت قوات نخبته وجثَت فتراتٍ على صدرها، خرج معظمها تحت وطأَة سيف عماد مغنيّة، وبدأت محاولات الحصار السياسي والعزل ومحاولة سحق نقاط القوة اللبنانية في السياسة، وكلها باءت بالفشل.
ومنذ حوالي الشهر، حطَّ المبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي لعملية السلام في الشرق الأوسط، “سفين كومبانز”، في بيروت، في زيارةٍ بان توقيتها مريبًا نوعًا ما، خصوصًا أنها أتت في خضمّ الحماوة السياسية التي سبقت الانتخابات النيابية منتصف الشهر الجاري، وكان الزائر مرَّ بداية على فلسطين، والتقى وزير الحرب الاسرائيلي بيني غانتس. كومبانز، جاء ملوِّحًا بالحَل النهائي، يخفي تحت طيّاته شروطًا ليس أقلّها الرضوخ والاستسلام لصالح العدو الصهيوني.
عرض المبعوث الأوروبي، صراحةً، معادلة الخبز مقابل الاستسلام، وكان صريحًا جدًا في لقاءاته الداخلية، ومنها مع حزب الله، حيث عرض على الأخير، بحسب مصادر صحيفة “الأخبار” اللبنانية، إجراء ترتيبات أمنية بين المقاومة اللبنانية والعدو الإسرائيلي على الحدود مع فلسطين، وحفظ حصّة “وازنة” جدًا للمقاومة في النظام اللبناني الجديد تضمن امتيازات واسعة لـ”الشيعة” في لبنان.
تحدّث كومبانز صراحةً عن سعي أوروبي لإجراء مفاوضات بين العدو الإسرائيلي والعديد من الدول والجهات العربية التي لا تزال تتمسّك بموقفها من الصراع، ومنها لبنان والمقاومة فيه. ولفت إلى أن الحل الوحيد للأزمة الراهنة هي المساعدات الخارجية الأوروبية والأميركية المشروطة بما أسماه بـ”الحل النهائي” في المنطقة. هذا الحل يكمن في الإعداد لعملية السلام الشاملة مع العدو الصهيوني، وفي معنًى أوضح، التخلّي عن عناصر قوّتنا، والرضوخ له والاستسلام الكُلّي. إضافةً إلى ذلك، وعد المبعوث الأوروبي بوجود حلّ لمشكلة الطاقة إذا ما تم “الرضوخ” للشروط والانطلاق نحو عملية السلام و”بيع” قضايا أمّتنا وتسليم أرضها وكرامتها.
وأوحى الزائر الأوروبي في أكثر من مطاف، أن السبيل الوحيد لحلّ الأزمة هو الانطلاق في مشروع تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني، وقد وضع الكثير من مغريات النموّ والازدهار والرفاهية تشجيعًا لمن لا يزال يحمل سلاحًا في وجه العدو الصهيوني، وتحفيزًا له للتخلي عن السلاح وفتح العلاقات مع من سرق أرضنا وارتكب بأمّتنا أبشع أنواع المجازر والإبادات.
هكذا إذًا، يقايضنا الأوروبيون بعدما انتهت بهم سبُل الحصار والتجويع والإرضاخ، بأن نبيع قضيّتنا من أجلِ إطعامنا، ويضعونا بين حلَّين لا ثالث لهما، إمّا الاستلام والخُبز، وإما المقاومة والجوع. ونحن نجيبه على لسان قائد المقاومة، بأن السلاح سيبقى بأدينا، وسننتصر في معركة الحصار والتجويع (انتهى الاقتباس)، ونحن مقتنعون أنه لا يوجد حل في هذه المنطقة إلا بإزالة الكيان الصهيوني وطرد كافة أشكال الاستعمار الغربي منها، وهو السبيل الوحيد لرفاهيّتنا، وسنَنتَزع بقوتنا وإرادتنا ووَعيِنا، استقلالنا، وسننال ازدهارنا بعزمنا، والأيام بيننا.
لا تختلف المنهجية العامة لكافة ساسات الغرب بشكل عام والهدف واحد ولو تغير اسم الدولة القائدة لهذه المنظمات من بريطانيا الانجلو سكسونية إلى أمريكا الانجيلية بمفهوم ومعتقد واحد لذلك سيبقى الصراع قائم وستتعاظم الضغوط بمختلف أشكالها
المواجهة مستمرة