قبورٌ في شمال وجنوب سورية وقعت في “الأسر”

رنيم ددش – خاص الناشر |

حُرمت «أم عبدو» منذ أكثر من 5 سنوات من أن تنثر أعواد الآس والبخور على قبر ابنها أو أن تقرأ زيارة أهل القبور الّتي خُطّت على باب مقبرة بلدتها. هي أمّ مكلومةٌ من نوعٍ آخر، فهي ليست والدة مفقودٍ تنام بقلبٍ مضطربٍ وتتوسل معرفة مصير ابنها، وهي ليست والدة شهيدٍ أو متوفّى تعرف مكان الراقد الأبديّ وتستطيع بسهولة أن تقصد القبر كلّما تلوّى القلب لتطفئ بزيارةٍ نيران الشّوق، وتبوح بسر الحنين فوق ناصية ابنها وجسده الّذي طاف عليه التّراب. أمّ عبدو هي أمّ لشهيد تعرف أين شاهد قبر ابنها لكنّها لا تستطيع الوصول إليه.

هُجّرت« أم عبدو» مع كامل أهالي بلدتي «الفوعة وكفريا» شمال سوريّة منذ نحو 5 أعوام بعد ترحيلهم بشكل قسريّ وتهجيرهم والضّغط عليهم واستبدالهم كسكان أصليين بعوائل يعودون بتبعيتهم للجماعات المناوئة للحكومة السّوريّة. ومنذ ذلك الحين لا تدري هي وكامل أهالي البلدتين أيّ شيء عن مصير ممتلكاتهم أو عن مآل القبور هناك.

الناجية من انهيار نفسيّ وعصبيّ حدّثتنا أنّها وقبل خروجها من بلدتها كانت قد دأبت على غرس شتلات خضراء وورد حول قبر ابنها حتى باتت الأمّهات الأخريات يستعنّ بها بداعي أنّ “يدها خضراء”، وهي جملة عادة ما تقال باللّهجة العاميّة كدلالةٍ على أنّ بعض الأيدي تُخلِف السّخاء فور انتهائها من بعض الأعمال.

السّيدة الّتي يظهر على وجهها علامات ودلالات توحي بأنّها أمّ لشهيد، أخبرتنا أيضًا أنّه كما يوجد في فلسطين كيان “إسرائيلي” غاشم يوجد أيضًا في بلدها كيان “إرهابيّ” محتلّ وغاشم؛ فهو من هجرها وجعلها تائهة في هذه الأيام؛ إذ حاولت خلال الـ4 سنوات الماضية في بلدتها “اللا أمّ” أيّ “منفاها الجديد” أن تعزم بكلّ حماس لتتوجه صباح كلّ عيد لتمارس طقس إلقاء التّحيّة على موتى غرباء علّها تتغلب على فكرة عدم وجود مقبرة خاصّة بأهالي بلدتها كما قبل، إذ باتت تشارك جيرانها بزيارةِ قبور أقاربهم، لكنّها عندما تصل تتلاشى الرغبة لديها؛ فالقبور الّتي زارتها لا تعرف وجوه أصحابها، بينما وجه ابنها ووجوه بعض أقاربها ممن انتقلوا إلى الدّار الآخرة والّذين يستحقون الزيارة، والّذين تعرفهم جيّدًا لا تستطيع زيارتهم أو حتّى ترطيب حجارة قبورهم الّتي تعتقد أنّها يبست وأصابها الذّبول بعد هذه الأعوام.

«أمّ أحمد» أيضًا مسنّة ومهجرة من أهالي البلدتين الآنفتي الذّكر، سكنت مدينة حمص مع ابنتها بعد التّهجير واستقرّت في مكان لا توجد فيه “مصطبة” تتكئ عليها كما في بلدتها ولا “أرض ديار” ولا غيرها من الأشياء المحبّبة لدى كبار السّن الّذين اعتادوا العيش في الرّيف.

الحاجة «أمّ أحمد» كانت تدرك أنّ جسدها لن يضمه تراب بلدتها “الفوعة” المحتلّة ، ولن تعود لتدفن قرب أمّها أو أبيها أو أخيها، فما كان منها إلاّ أن أرفقت ضمن وصيتها قبل أن توافيها المنيّة في آذار من العام الفائت أن تدفن في قرية “الدلبوز” الّتي تبعد حوالي 15 كم عن مركز مدينة حمص غايةً منها أن توفر عناء السّفر وتكاليف نقل جثمانها إلى الأمكنة الّتي يقطنها أولادها المهجّرون أيضًا.

طلب استضافة جثمانها في المقبرة لاقى كلّ التّعاطف من قِبل أهالي البلدة، فدفنوها وشاركوا في الأجر والتّشييع وتناوبوا على قراءة القرآن ولم يُشعِروا الوفيّة “الغريبة” بأنّها “وحيدة”.

تتالت عمليات استضافة موتى البلدتين، فاحتضنت مقابر بلدتي نبّل والزّهراء في ريف حلب العديد من جثامين أهالي بلدتي كفريا والفوعة المحتلتين، لينتهي بذلك عُمْر أبدانهم وأرواحهم في مثوى أخير لا صلة له بـموطئ رؤوسهم .

الشّهيد “سلام” المنحدر من بلدة “كفريا” والّذي يحمل اسمًا جهاديًّا، حلّ هو الآخر ضيفًا في روضة شهداء نبّل حتّى أنّه أصبح من “أهل الدار”، فما إن علمت إحدى سيدات البلدة أنّه كان رفيق ابنها بالسّلاح وأنّ والدته قد توفيت حتّى طلبت أن يدفن بجوار قبر ابنها، وراحت بعدها تكرم الضيف وتعتني بقبر الرّوح الّتي أسلمت لبارئها وحلّت مكان أمّه الفقيدة، تبسمل على قبره وتضع الورود.

قبور في جنوب سوريّة أيضًا واجهت مصير الوقوع في الأسر، فبعد أن أُجبر معظم الأهالي الّذين ينتمون للطائفة الشيعيّة في بلدة بصرى الشّام على ترك منازلهم وممتلكاتهم بفعل هجوم أنذر بإبادتهم من قبل الجماعات الإرهابيّة المسلّحة عام 2015، اضطروا على إثره إلى مغادرة منازلهم بلا عودة وترك قبورهم .

بعد التهجير انتقلت «رؤى» وذووها من بصرى الشّام للعيش في مدينة السّيدة زينب عليها السّلام في العاصمة دمشق، حيث تركت في بلدتها منزلها وصندوق ذكرياتها وقبر أخيها الشّهيد. تروي لنا «رؤى» كيف دخلت إلى مقبرة مدينة السّيدة زينب وكيف وجدت مُصادفةً قبرًا يحملُ على شاهده اسمًا يشبه اسم أخيها لكنّه يحتضن جثمانًا آخر، لتعتاد بعد ذلك على زيارة القبر وقراءة فاتحة الكتاب لكليهما، لأخٍ لا تستطيع زيارته وتحسس قبره، ولقبر شهيد لا تعرف شكله لكنّ اسمه يذكرها بأخيها.

يخشى «أبو مهديّ» أن تكون الأخبار القادمة من مدينته المُبعد عنها هو وأهله صحيحة، لا سيما بعد أن تواترت أنباء تتحدّث عن أنّ المسلّحين الّذين سيطروا على مدينة بصرى الشّام أقدموا على نبش مقبرتين وبيع رخام القبور وتحويل إحداها لمكب للنفايات. أمّا والدته المسنّة والّتي خرجت على عجل من البلدة بفردة حذاءٍ واحدةٍ وغطاء رأسٍ وضعته بشكل عشوائيّ خوفًا من وصول الإرهابيين الّذين أنذروهم بمذبحة ما لم يخرجوا، فتمنّت أن يرعى الله قبرَي ابنيها الشّهيدين من عمليات نبشٍ وتخريب لا تصدر إلاّ من أصحاب قلوبٍ خشنة وسوداء.

قليلة هي الروايات والحكايات التي نُسجت في الحرب والتي تتشابه مع ما واجهه أهالي كفريا والفوعة وبصرى الشام في سورية، فكانوا وحدهم ممن استبدلوا بسكان غير شرعيين وممن اغتصبت ممتلكاتهم وأسر موتاهم، فباتوا لا حول لهم إلا الاستعانة بـ google maps للمواظبة على تذكر موقع بلداتهم وبيوتهم وقبور أحبتهم علها لا تُنسى.

اساسيالفوعةسورياسوريةكفريا