إذا كنت من الذين يسكنون الأحياء القديمة في بلدك أو لديك أحد أقاربك هناك، فمن الطبيعي أن تتعرض في بعض الأحيان إلى اجراءات حكومية صارمة تتعلق بحفظ الآثار والتراث، فلا يمكنك أن تغير شيئًا من معالم القدم في جدران منزلك أو سقف غرفتك المقوس العتيق دون إبلاغ الجهات المسؤولة.
هل تساءلت يومًا لم كل ذلك الحرص على الأشياء القديمة في ظل التطور الذي وصلت اليه دول العالم المشهورة بالأبراج وناطحات السحاب، ولماذا تستهدف الآثار؟
تسعى الدول ذات الإرث التاريخي إلى حماية وجهها القديم بكل تجاعيده الحافرة في الأزقة والأبواب مهما بلغت من التطور العمراني ومواكبة الحداثة متطلبات العصر وتحيطه بسياج من الرعاية الخاصة في ما يعرف بـ (المدن القديمة).
إن وجود المدن القديمة في التنظيم العمراني محيدةً عن أي تغيير أو تطوير يسجل نقطة قوة للدولة وركيزة أساسية لقطاع السياحة، ويعتبر ميزةً جوهرية تميز الدول التاريخية الأصيلة عن غيرها وخاصة الدول المستحدثة أو تلك التي نشأت على أنقاض الشعوب الأخرى كأمريكا مثلًا حيث لا زالت إلى الآن تعاني من بعض الصراعات التي تنشب كل فترة بسبب اضطهادها للسكان الأصليين.
فالمدينة القديمة تعني ذاكرة الدولة والشعب وسجل حضارته ووجهه الثقافي وحزام خصوصياته وكل ما يميزه عن غيره، حيث يعبّر بها أبناؤها عن جذورهم الضاربة في عمق الزمان وتفاعلهم وتناغمهم مع الأرض وما نضح عنه من الفن والزخرفة والشعر والثقافة والعمران وذلك بصبغة من ذاتهم وأدواتهم وفلسفتهم ورؤيتهم الخاصة وجماليتهم الفريدة.
بين الأصالة والأوجه المستعارة لماذا تستهدف المدن القديمة؟
مع احتلال الكيان الإسرائيلي المؤقت للأراضي الفلسطينية ركز بشكل ممنهج ومدعوم أمريكيًا على تدمير التراث العربي الفلسطيني في المدن الفلسطينية القديمة وخاصة مدينة القدس فيما عرف بالتهويد.
ثم امتدت أيادي العبث بوجه المنطقة ككل من خلال استهدافات تخدم الكيان الإسرائيلي المؤقت خارج حدود فلسطين كما حصل في سورية، حيث تعرضت الحرب المفروضة عليها لمعالم المدن القديمة بكل أشكال التخريب وخاصة مدينة حلب القديمة وجرى إحراق الأسواق ومحاولات استهداف قلعة حلب، وأيضًا المدينة القديمة في دمشق، تلك المدن التي تعبر عن الهوية والبيئة العربية والإسلامية للمنطقة والتي تشبه كثيرًا شوارع وأزقة مدينة القدس.
إسرائيل جسم غريب يتكيف بالإقصاء والبتر
إن السبب الذي يدفع الكيان الإسرائيلي لاستهداف الأحجار القديمة والآثار هو شعوره بالشذوذ الانتمائي والاجتماعي عن بيئة منطقة بلاد الشام المتلاصقة والمترابطة، فقد وجد نفسه جسمًا غريبًا عن هوية المنطقة وتركيبتها الخاصة وشؤونها وحياتها الاجتماعية وثقافتها، تطفلَ وأقحم نفسه عنوةً فكان واضح النشاز والغرابة، وهذا ما أورثه الاستهجان ووضعه في عزلة ثقافية وايديولوجية كبقعة الزيت العكر في الماء العذب.
انتهجت الدول الغربية منهج الحرب الثقافية على هوية المنطقة لتنقذ الكيان الإسرائيلي من حالة الانعزال الثقافي وينال المقبولية والانسجام من قبل الشعوب العربية، فعمدت إلى تصدير ثقافتها وحضارتها ونمط حياتها في الدين والفلسفة والعلوم والتكنولوجيا والعمران والفن والمأكل والمشرب وكل تفاصيل حياة المجتمعات الغربية تحت غطاء العولمة أو الحداثة والتطور والتقدم والتحضر، وكل تلك القيم التي جعلت معيارها هو ما تصدّره للمجتمعات سواء عبر شاشات التلفاز وأجهزة الموبايل أو منتجاتها التي تصدرها عبر شركات التجارة العالمية لتمحو الوجه القديم الأصيل، فيكون الوجه الجديد مزيجًا هجينًا من ثقافات وهويات مستوردة منسلخة من أي انتماء أو عزّة.
تخشى “إسرائيل” من الأجداد المتجذرين والأحفاد المتطورين
إن الكيان الإسرائيلي الجسم الغريب الذي يوضح نشازه تماسك النسيج الاجتماعي العربي وحفاظه على هويته وثقافته وأصالته يحارب القدَم والحداثة معًا ليثبت جدوى وطبيعة اقتحامه نسيج المنطقة.
فالأجداد بالنسبة له كابوس يهدد أمنه لأنهم ليسوا فقط سجلًّا لذاكرة المنطقة وصورة عن هويتها العربية والإسلامية بل لكونهم شهودًا للأجيال القادمة على غرزه العنيف كمحتل في خاصرة الأراضي العربية وشهودًا على جرائمه وانتهاكاته ووحشيته وشهودًا أيضًا على جمالية الحياة قبل ذلك اليوم المشؤوم الذي احتل فيه الأرض وفرض نفسه بقوة السلاح والمال.
وأحفادهم أيضًا يشكلون خطرًا على أمنه إذا ما امتلكوا أدوات التطور الذاتي دون الحاجة لأدوات غربية مستوردة؛ فالغرب و”إسرائيل” يريدون أن تمارس دول الشرق الأوسط التطور لا أن تصنعه.
فأن تمارسه وتدمنه وتؤمن بضرورته يعني أن تبقى الشعوب مرهونة لهم تقتات على فضلات صناعاتهم واختراعاتهم ومقيدة بما يريدون لهم من سياسات وقرارات لا تخدم إلا مصالح أمريكا و”إسرائيل”.
وقد عبر عن هذا التخوف وزير الجيش الإسرائيلي بني غانتس عندما صرّح أثناء تفقده منطقة الشمال من الأراضي المحتلة بأن الجيش الإسرائيلي سيعمل على منع نقل القدرات المتطورة من إيران إلى المنطقة، مبينًا أنها ستعرّض الإسرائيليين للخطر وتضر باستقرار المنطقة برمتها. فماذا يقصد بالقدرات المتطورة التي يعتبرها غانتس خطرًا يهدد أمن الكيان الإسرائيلي؟
لم يتحدث غانتس عن صواريخ أو مسيّرات إيرانية يخشى من وصولها لدول المنطقة وخاصة المجاورة للأراضي المحتلة كسورية ولبنان لأن وصولها أصبح تحصيل حاصل.
إنما يخشى أن تصل القدرات المتطورة الإيرانية في العلم والتكنولوجيا والصناعة وغيرها من القدرات التي من شأنها أن تسحب البساط من تحته في استغلاله حاجة الدول لصناعاته وقدراته وما يقدمه في ميدان تفوقه العلمي وضعف قدرات تلك الدول على الاعتماد على نفسها وتحقيق استقلالها عنه في هذه المجالات، وبالتالي الاستغناء عن خدماته المأجورة بأثمان باهظة وانعزاله سياسيًا واقتصاديًا وكذلك ثقافيًا باعتباره جسمًا غريبًا عن هوية المنطقة، وهكذا حتى يضمحل من تلقاء نفسه.
الخلاصة
إن أي بناء عمراني مهما بلغ ارتفاعه ومتانته واعتُني بمظهره لا بد أن يكون له أساس حافر في عمق الأرض حتى يثبت ولا ينهار فوق رؤوس ساكنيه، وكذلك المدن القديمة التي تعتبر أساسًا تنطلق منه الحداثة والتطور بقوالب تحدده ثقافتها وهويتها ولا تفرضه عليها ثقافات مجمعة تجميعًا لا أصالة فيها ولا أساس غائرًا يحميها من أن تنسف في مهب الريح متى ما قالت الشعوب كلمتها، فسينتصر وجه الأجداد حتمًا ويمتلك الأحفاد قوة الانتماء وقوة الارتقاء، فالسهم يكون أشدّ وأكثر انطلاقًا حين يستمد قوته من عمقه المكنوز حين يعود إلى الوراء. وهنا تكمن أهمية التاريخ في حاضرنا ومستقبلنا وهذا معنى قول الأجداد “لي مالو قديم مالو جديد”.