انتهت أيام الانتخابات النيابية، اقترع الناس واختاروا ممثليهم، واضعين في صناديق الاقتراع ما تبقى لديهم من أحلام وأمل في بناء وطن. ثم عاد اللبنانيون إلى روتينهم اليومي ومعاناتهم التي لم تنتهِ، وربما لن تنتهي بها.
ومع العودة أطلّت الى الواجهة مجددًا أزمة من أزمات البلد المصيرية الصعبة، أزمة الرغيف الذي بات هو أيضًا، في هذا الوطن، حاجة حياتية تحتاج الى النضال والصبر والشقاء للحصول عليها.
أبرز أركان الأزمة: المصرف المركزي
يواجه اللبنانيون منذ سنتين تقريبًا، ومع بداية الأزمة الاقتصادية وانهيار القطاعات، أزمة أمن غذائي حادة، لا سيما أزمة القمح التي أحدثت بلبلة في صفوف اللبنانيين الذين تهافتوا لشراء الخبز واصطفوا في طوابير طويلة أمام الأفران في مناطق لبنانية مختلفة.
وبالحديث عن أسباب الأزمة، فإن السبب الرئيسي لظهورها في كل فترة يعود الى عدم فتح مصرف لبنان اعتمادات للبواخر المحملة بالقمح أو لجزء منها، الأمر الذي يسبب نقصًا في الكمية المؤمنة، وبالتالي فإن كمية القمح المتوفرة تكون غير كافية لتوزع على المطاحن والمخابز مما يؤدي الى انقطاع الخبز أو توفره بكمية غير كافية لحاجات السوق.
ومؤخرًا، ووفق ما أفاد رئيس نقابة أصحاب المطاحن في لبنان أحمد حطيط، فإن “مصرف لبنان المركزي حوَّل الأسبوع الماضي أموالًا لأربع بواخر فقط من أصل ثمانية ترسو في البحر، وذلك لقوله إن مبلغ الـ21 مليون دولار الذي أقرّه مجلس الوزراء لا يغطي إلّا 4 بواخر لا أكثر، وبالتالي فإنّ الكميات التي أُمِّنت من القمح وُزِّعَت على أربع مطاحن من أصل 12 مطحنة في لبنان، الأمر الذي قسَّم المشهد بين مطاحن تملك قمحًا مدعومًا، بعكس المطاحن الأخرى، وبالتالي فإن الأفران التي يتوافر عندها الطحين هي فقط التي تخبز بشكل عادي”.
ويشير حطيط إلى أن الأزمة الأكثر حدّة تقع في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، باعتبار أن المطاحن التي يتعاملون معها لا يتوافر عندها القمح المدعوم، وهي مقفلة منذ يوم السبت الماضي، ولا يمكن لأي مطحنة أن تحلَّ مكان الأخرى.
وأمام هذا الواقع يبقى السؤال المطروح هنا: لماذا يمتنع مصرف لبنان عن فتح اعتمادات ويحمل المسؤولية لمجلس الوزراء وكأن للمصرف سلطة مستقلة عن سلطة الدولة ولا تخضع لها؟
هذا السؤال يعمّم على العديد من الأزمات المشابهة التي يعيشها المواطن يوميًا، والإجابة الواضحة لحد الآن، هي أن المصرف يمهد لرفع الدعم كليًا عن القمح. وفي هذا السياق سيصل سعر ربطة الخبز الى 30 ألف ليرة وما فوق، وبالطبع فإن الطبقة الحاكمة ومعها كهنة مصرف لبنان لن يرف لهم جفن!
ومن ناحية أخرى فإن تآمر مصرف لبنان وأسياده على لقمة عيش اللبناني قد يكون لاعتبارات سياسية لإضعاف بيئة معينة من المجتمع اللبناني وتحميلها المزيد من الضغوطات والمسؤوليات تنفيذًا للحصار الخارجي المفروض من الشيطان الأكبر والمطبق أيضًا من بعض شركاء الداخل وعملائه المعلنين وغير المعلنين.
الحلول عديدة والأولوية للمستدامة منها
كغيرها من الأزمات الأخرى، فإن لأزمة القمح حلولًا متعددة، تنقسم ما بين حلول على المدى القصير المستعجل، وحلول على المدى الطويل، وهي الأساس والأكثر فعالية.
وفيما يتعلق بالشق الأول فإن الحلول المتاحة حاليًا لتأمين الاحتياجات الغذائية الأولية من القمح تمثلت بتوجيه استخدام القمح المدعوم الى صناعة الخبز العربي فقط، وهو ما يسمى بطحين فئة 85، أما أنواع الطحين الأخرى أو ما يعرف بالطحين “الإكسترا” والذي يستخدم في صناعة الخبز الإفرنجي والمناقيش والكرواسون مثلًا، فسيكون غير متوفر في الأسواق اللبنانية بأسعار مدعومة مما يستلزم استيراد بواخر قمح أخرى غير مدعومة وبالتالي ارتفاع أسعار هذه المنتوجات بشكل كبير جدًا.
وتجدر الإشارة الى أن هذا الحل وغيره من الحلول المؤقتة لن يعطي نتيجة مضمونة وفعلية بل هي ليست سوى حلول “ترقيعية” سرعان ما سينتهي مفعولها وتعود الأزمة لتظهر من جديد.
أما فيما يتعلق بالحلول البعيدة المدى والمستدامة لإنتاج القمح، فإنها تتمثل “بوضع خطة للنهوض بقطاع القمح عبر تحديد آلية واضحة وشفافة يحتاجها كل مزارع ووضع رؤية كاملة متكاملة لدورة اقتصادية يدخل القمح كأساس فيها”، وذلك وفق ما أفاد وزير الزراعة الدكتور عباس الحاج حسن، بالإضافة إلى أن وزارة الزراعة بدأت بالشراكة مع قيادة الجيش اللبناني بمسح الأراضي المخصصة لزراعة القمح والأراضي التي يمكن زرعها مستقبلًا وذلك لتحديد السهول الداخلية والساحلية، والمزارعين الذين سيتم استهدافهم بالمساعدة، وتقدير الكميات التي يمكن أن ينتجها لبنان، وهذه الخطة من شأنها تحقيق الاكتفاء الذاتي على المدى البعيد والحد من استيراد القمح من الخارج.
لم يسلم الرغيف من ريح الأزمات التي عصفت بالبلاد، ولم يهتز ضمير الفاسدين حين طال فسادهم رغيف الفقراء المجبول بالذل والقهر. ولأن كل شيء في هذا البلد المعجزة هو وارد الحصول، فلا عجب أن يعود بنا القطار الى العصور القديمة، وكل ذنبنا كشعب أننا ابتلينا بأفسد طبقة حاكمة أنتجها التاريخ، والمضحك المبكي أننا في كل مرة نعيد اختيارها من جديد، كأنها قدر مكتوب على جبين الشعب، وكأن فئة من هذا الشعب قد أصبحت جزءًا من هذه المنظومة.