يوم الأب في حضرة الجمع المقدس لأبناء الشهداء

 في يوم الأب، يقتلنا أبناء الشهداء حياءً. فاليتم في عيني الطفل خيط من شعاع الفداء وأثر من حكاية الإيثار التي خطّها الوالد الشهيد بدمه، وبدمع عياله المخضّب بالعزّ وبالشوق وبالفقد.

نستحضر وجوه أيتام الشهداء في وداع آبائهم. العجيب بأمرهم أن وجوههم لا تستدعي أيّ شكل من أشكال الشفقة، فهم يبدون في أعلى جهوزية لتلقي جرعة الألم بصبرٍ يحاكي المستحيل، بل ويغمرون من حولهم بفيض من إباء آبائهم، فنلوذ بهم، نحن الحاضرين المربكين بحيائنا وبخجل أعيننا منهم، ونكاد نشكو لهم فرط وجعنا في حضرة يتمهم. أبناء الشهداء بعيونهم ينطقون، بلغة الدمع أو الشرود، أن لم يروا إلا جميلًا، حتى يظنّ الناظر إليهم أنّهم في أرحام أمهّاتهم تجهّزوا ليوم الوداع، حتى بلغوه على هذا القدر من العزّة ومن الكبرياء.

لكنّهم أطفال، وعيون الأطفال تنظر حولها، ولا بدّ يستوقفهم مشهد أبٍ يحتضن ابنًا له، أو والد يختار في متجر دمية لابنته. وشرودهم أمام مشهد كهذا لا يسلب منهم شعورهم بالعزّ السماويّ، بل يأخدهم إلى ذاكرة لهم مع الوالد الذي من سمائه يحدّق بهم، بشكل قد نعجز بعقولنا الأسيرة عن فهمه. الرابط بين الشهداء وأولادهم أعمق وأكثف وأقوى مما نستطيع إدراكه، وهو ما يجعلهم على هذا القدر من الاكتفاء العاطفي ومن العطاء الوجداني. لا يعني ذلك طبعًا أنّهم لا يستيقظون في ليلهم يبحثون عن رائحة الحبيب الغائب في قميصه كي يطمئنوا من فزع أو يهدأ فيهم الشوق برهة، ولا يعني أنّهم لا يتحسسون بأيدي قلوبهم كلّما مرّت عليه يدا الشهيد. بعضهم يكمل الدرب موقنًا أن أباه لم يغب، لكنّ شكل حضوره تغيّر. وبعضهم يواصل درب الأب ساعيًا إلى رتبة الشّهادة كي يطوي سني الشوق بلقاء الأب بين أيدي ربّ رحيم، وبعضهم يبني قرب ضريح شهيده مكانًا للمناجاة، تراه يلتجىء إليه كلّما احتاج للكلام، أو للبكاء. وجميعهم، كلّ بأسلوبه وطريقته، يواصل الارتباط بأبيه، كأن اليتم ليس سوى اللحظة الأولى من زفّ الخبر، وكلّ ما يليه شكل آخر من أشكال الوصال.

كلّ ما سبق لا يعفينا من حقّ أبناء الشهداء بأن نكون ممتنين لهم في كل محطة، وعند كل مفترق في الزمان، بل في كلّ لحظة نشعر فيها بقيمة ما قدّمه الشهداء، وما منحونا من عزّ ومن شرف ومن أمان كي يغفو في أحضاننا أولادنا آمنين مطمئنين متنعمين بصوت آبائهم في أيامهم. ولا يمنع عن صدورنا الغصّة الجارحة كلّما سمعنا ابن او ابنة شهيد يتحدث عن أبيه، بالصورة التي لم نعرفه فيها، أو كلّما مرّ في أيامنا مشهد مسجّل لشهيد يضمّ فلذة كبده، مدلِّلًا أو مودّعًا.. يبدون في طور تقديم النموذج الأبويّ بأكثر ما يمكن للأبوة أن تحوي من عاطفة وقوّة وبشكل كثيف ومركّز بما يكفي ليمتدّ على كلّ أعمارهم، وعلى كل الزمان الذي سيعيشون فيه بلقب “أبناء الشهداء”.

حين وصف السيد نصر الله عوائل الشهداء بالمجمع المقدّس، لم يكن يقصد التفخيم ولم يكن بصدد اختيار عبارة بليغة مواسية بقدر ما كان يشير إلى قدسية العائلة التي يخرج منها الشهيد، هذه القدسية التي كانت المعبر الأول للشهيد نحو معاني التضحية والإيثار والحبّ الخالص.

والقدسية هنا تشمل أمهات وآباء وإخوة وأخوات ونساء وأولاد الشهداء، بل كلّ أفراد عائلاتهم ومحيطهم الأسري الذي لا بدّ فيه من النقاء ما يكفي ليرفع فردًا منه له إلى مرتبة الشهادة، في زمن اختلط فيه على الكثيرين حبّ الحياة بالتمسّك بها، واُتهم فيه الشهداء على ألسنة مدّعي ثقافة الحياة بأنهم حمّالو ثقافة الموت فقط لأنهم آثروا موتهم كي تُصان البلاد والناس.

لأبناء الشهداء في أعناقنا دين لا يتوقف عن النمو في كلّ لحظة من أعمارنا التي تبدو شديدة التفاهة في محضر لحظة من أعمار الشهداء أو في حضرة نظرة في عيون أيتامهم، دينٌ يتواصل ويتعاظم في كلّ مرة نحتضن فيها ابناءنا، في كلّ مرة نمشي فيها في الطريق آمنين، وفي كلّ مرة نحتفل فيها بمناسبة ذات طابع عائلي وندرك أن من أهل الحبّ كثيرون ممّن يحتفلون بهذه المناسبات قرب ضريح عزيز يحوي رفاة أبٍ استشهد، أو أمام صورة عزيز مفقود الأثر.

لهم كلّ الحب، وكلّه لا يعادل قطرة من بحر العشق الذي في أعينهم وهم يواسون حياءنا بنظرات الرضا والعاطفة.. ولهم كلّ ضمّات الحنوّ وإن نعرف أنها كلّها لا تخفّف برهة من ثقل الشوق إلى ضمّة من عاد من الحرب مستشهدًا.. ومنهم كلّ ترجمات المفاهيم والقيم العليا إذ يستطيعون بنظرة واحدة أن يغدقوا على يباس قلوبنا بأمطار من التضحية والحب والإيثار والرضا واليقين، الكثير من اليقين.

اساسيشهداءعيد الأب