لماذا تعجز كل قوانين الردع والعقوبات والغرامات والمراقبات عن اقتلاع الفساد من جذوره، سواء في العمل أو في الأسرة أو في المدرسة والجامعة؟
لماذا يتنصّل الأشخاص من تطبيق القواعد والالتزامات في أي فرصة تتاح أمامهم، أو بمجرد غياب أي رقيب عليهم؟
يعود سبب كل ذلك إلى غياب القناعة العقلية وتصديق القلب لما تقوم به الجوارح من أقوال أو أفعال، فتجد الأم أو الأب، المدرّس أو الطالب، المدير أو العاملين، يتحدثون عن أهمية الأخلاقيات والمثاليات في تحقيق الانضباط المجتمعي والوصول إلى النجاح والفلاح، لكن على مستوى التطبيق يتسامحون جميعًا مع أنفسهم في ارتكاب الهفوات والأخطاء.
والحل في أن تكون الرقابة الذاتية مشفوعة بالرقابة الخارجية لا تنفك عنها في كل نواحي الحياة.
والرقابة الذاتية هي أن يجتمع المسؤول والعامل في شخص واحد. وهي أن يكون الشخص مؤمنًا بما يقول وبما يفعل، فإنه حين يكون مؤمنًا بأقواله فلن تغيب عن ضميره في أي تطبيق أي قاعدة أو قانون يشعر هو بأهميته، وإن كان مؤمنًا بما يفعل فلن ينتظر أن يراقبه مفتش أو يسأله مدير فيطبق القوانين بدافع الخوف من المساءلة فقط ويتنصل منه متى اطمأن إلى غياب ستر الرقابة عنه.
تفعيل دور الرقابة الذاتية
إن تفعيل دور الرقابة الذاتية إلى جانب الرقابة الخارجية يحتاج إلى خطة عمل متكاملة تشمل كل المؤسسات انطلاقًا من الأسرة، ولكن قبل ذلك يجب أن تصبح حاجة مجتمعية ملحّة، أي يجب أن يقول أبناء المجتمع جميعًا على اختلافهم سئمنا من تآكل منظومتنا القيمية، وسئمنا من الفساد الذي استشرى كالسرطان في جسد بنيتنا وبيئتنا، وسئمنا من غياب الأخلاقيات ونوم الضمير ومن ثم يقرروا جميعًا أن يقوموا بحركة تصحيحية تنهض بواقعهم على أساس وضع خطط وبرامج لتنفعيل دور الرقابة الذاتية.
كيف تصنع الحرب الفساد؟
إن الحرب لا تأتي بالفساد على ظهر دبابة، بل هي تقتل الوازع الأخلاقي في النفوس، وتقدم فرص الانحراف حين تمحو سلطة الأعراف المجتمعية الحاكمة وتقدم الأسباب والمبررات للانحلال الأخلاقي وتهيئ له الظروف فيصبح المستهجن مستحسنًا والمعروف منكرًا حين يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ويُغرقون الشعوب في مستنقع الفساد، بعد أن يزيّنوا لهم الاغراءات اللحظية واللذات الآنية فيغفلوا عن الشر القابع خلفهم والخطر المحدق بهم.
هذا ما حاولت الحرب المفروضة على سورية زرعه في المجتمع وقدمت له نماذج متوحشة سلبت رداء الرحمة والنبل من وعي المجتمع حتى أصبح حسن الظن نوعًا من البلاهة وهكذا بقية القيم التي تحولت وتبدلت.
تأثير فصل الرقابة الذاتية عن الرقابة الخارجية: البطاقة الذكية نموذجًا
مثلًا في الجانب الخدمي، أتت البطاقة الذكية كحلٍ فرض قوانين لضبط السرقات والحد من الهدر في قوت البلد الرئيسي، وهو الخبز، لكن غياب الرقابة الذاتية إلى جانبها ومفرزات الحرب التي اختلقت الكثير من مبررات الفساد والاخطاء وسيطرة الإغراءات جعلت بعض أصحاب الأفران يبدع في الحيل للتهرب من تطبيق القانون وإيقاف السرقات والمحسوبيات، فبعض الأفران ينقص من عدد الأرغفة والبعض الآخر يقلل من جودة الرغيف، ولم يتمكن مشروع البطاقة الذكية الذي حدد عدد ربطات الخبز أن يجتث جذور هذا الفساد ويحقق الكفاية للناس لأنه يحتاج إلى حسّ بالمسؤولية من الجميع تقوم على زرعه وتنميته برامج تفعيل الرقابة الذاتية.
أخيرًا، هناك مقولة يحفظها المجتمع السوري جيدًا وهي (إن لم يكن لك من نفسك واعظ لن تنفعك المواعظ).
إن الحل بعد تدمير الحرب كل شيء في سورية وإحداث التصدعات الإيمانية بمنظومتنا الأخلاقية والتربوية والدينية هو أن يكون الحل منظومة متكاملةً لا تراعي جانبًا وتغفل آخر، لأن كل شيء مرتبط ببعضه بعضًا، فغياب التربية الأسرية مرتبط بغش الطالب في الامتحان والآخر مرتبط بتقاضي دكتور الجامعة ثمن تسريب الأسئلة ومرتبط بغش البنّاء في مواد البناء وانهيار المبنى فوق رؤوس سكّانه، وكذلك مرتبط بتقصير الموظف في عمله واعتماده على الرشاوى، ومرتبط بغلاء الأسعار وتأزم الوضع الاقتصادي ذلك لأن الحضارة تنهض ككل.