قارب الموت.. الجريمة على البر

يغصّ القارب بحمولته من الهاربين إلى المجهول، المجهول الذي صوّره المهرّب جنّة قريبة تصلها على متن قارب عتيق، دون أن يشير إلى الحالمين بأي تلميح عن احتمال الانتهاء جثثًا أقصى ما يمكن تمنّيه لها هو إمكانية انتشالها كي تدفن في التراب فيزورها الأهل بين حين وحين.

الحكاية مفزعة. أحاديث الناجين وروايتهم عن طراد تعمّد إغراقهم مفزعة. فكرة وجود أطفال على متن القارب مفزعة. الفقر مفزع. وفي محضر هذا الفزع، ثمّة نقاشات كثيرة من الممكن تأجيلها، إلّا مسألتين:

هل تمّ إغراق القارب عمدًا؟
الجواب عند قيادة الجيش. ورواية الناجين إن كانت صحيحة، فهي مصيبة، وإن ارتبطت صحّتها بقرار من الجيش، مصيبة، وإن ارتبطت بقرار فردي من ضابط في البحرية مصيبة، وإن كانت مختلقة وجاءت على لسان الناجين بإيعاز من جهة ما، فاختلاقٌ كهذا مصيبة أيضًا. بكل الحالات هي مصيبة.

من المستفيد اليوم من المأساة؟
يحق للمرء أن يتساءل حول الجهات التي تسهّل هرب الفقراء على متن قوارب الموت، فتستفيد ماديًا من المبالغ التي تلزمهم بدفعها، وتستفيد معنويًا من تصوير المشهد وتأويله بالسياسة، تقريشه، ليصبح أرضًا يُبنى عليها شعار انتخابي. ولعل ما قاله المصاب بفوبيا حزب الله بشكل اقترب من الهوس، فارس سعيد، عن مسؤولية حزب الله عن الفقر الذي دفع بالناس إلى الهرب على متن قارب، هو افتتاحية سمفونية شعاراتية توظّف في المهرجانات الانتخابية الآتية.

على هذا السؤال، تصح عوكر جوابًا، بل تختصر الإجابات كلها، فكلّها يعمل بشكل أو بآخر في تنفيذ الأوامر العوكرية.
هي ليست عقدة المؤامرة، لكن التجارب علّمتنا أن في كلّ مصيبة يدًا أميركية، خطّطت أو جهّزت أو سهّلت أو نفّذت، أو كلّ هذا.

المأساة تفرض اليوم أن يكون التحقيق أسرع من المعتاد وأن يكون مختلفًا طبعًا عن التحقيقات التي لم تصل الى نتيجة كما في التليل على سبيل المثال لا الحصر، وأن يُمنع توظيف الموت في خدمة المصالح الانتخابية والشعارات اللاعبة على أوتار مواجع الفقراء، أن يُمنع المدعو أشرف ريفي من “الجقجقة” المشبوهة فوق جثامين الغرقى وأعين الناجين الغارقة في صدمتها، فهذا الكائن سارع إلى تحميل “السلاح” مسؤولية قارب موت قد يكون هو الأدرى بمن سهّل تحميله بالناس، أو ربّما إغراقه، فهو ابن المنطقة وأحد النافذين فيها.

وتفرض المأساة أيضًا أن نكون كلّنا، نحن الفقراء، محصّنين ضد خيارات يدفعنا إليها الفقر بالظاهر، وبالباطن عناصر مختلفة ومنها التحريض على قرار كهذا، وتسهيله، والدعوة له. وربما لو توسّع التحقيق لكشف دور عصابات التهريب والمستثمرين في هذا المجال، في إقناع الناس باتخاذ خيارات انتحارية، وكشف ارتباطات هذه العصابات بالنافذين الطرابلسيين خصوصًا. أما إذا سلّمنا جدلًا بأن الفقر وحده هو الدافع، فالسؤال والمسؤولية برسم “زعامات طرابلس”، سواء العاملة في خدمة التركيّ أو السعوديّ، وارتباطاتهما، وأشرف ريفي وأمثاله هنا في رأس القائمة.

الرحمة لمن غادروا الحياة ليل الأمس وهم على أمل بمغادرة البلد، ولا عفا الله عمن دفع بهم إلى هناك، ولا عمّن يستثمر اليوم في موتهم. باختصار، ليل أمس، شهد البحر جريمة مروّعة، جريمة خُطّط لها على البرّ، وتُستثمر الآن على البرّ، ومن بديهيات الأشياء، أنّ المخطّط يستثمر، كي يستفيد مرّتين.

اساسياشرف ريفيالجيش اللبنانيطرابلسفارس سعيدلبنان