تحولت غزة المحاصرة إلى لاعب أساسي في السياسات الداخلية الإسرائيلية وخاصة بعدما ترسخت “معادلة القدس” في مفاصل الوعي الإسرائيلي فيما يخص بالذات القدس والمسجد الأقصى.
مع التجربة الصعبة التي مر بها الكيان المؤقت بعد معركة سيف القدس أصبح واضحًا للعيان أن الاستفراد الإسرائيلي بالقدس، والعنجهية الصهيونية في التعاطي مع ملف القدس والداخل الفلسطيني والضفة الغربية أصبح مقيدًا إلى أقصى الدرجات، وتحولت سياسة “سحب الذرائع” التي كانت نظرية الجبناء في السابق بالتعاطي مع “إسرائيل” إلى سياسة إسرائيلية خاصة بقطاع غزة والقوى الفلسطينية المقاومة، وهي نتيجة معادلة القدس التي وضعت الإسرائيلي في خانة ضيقة جدًّا وقلصت هامش حركته إلى الحد الأقصى.
الاقتدار الغزاوي المتمثل بقوى غزة المقاومة والتي أصبح أبرز سماتها فرض رداء الحماية العلني على القدس وعلى الفلسطينيين المرابطين في الأقصى تحول إلى كابوس يضغط ساسة الكيان المؤقت وعسكرييه، وكابوس للمستوطنين خاصة في ما يسمى غلاف غزة الذين سرعان ما تتحول مستعمراتهم إلى أماكن خاوية على عروشها مع الإطلاقة الفلسطينية الأولى ومع سياسة تنقيط الصواريخ عليهم التي تؤذن بالمواجهات الكبرى القادمة.
في البداية يفرض سكان هذه المستوطنات على صنّاع السياسة الإسرائيلية خطوطًا حمرًا تجاه أي رد إسرائيلي على قطاع غزة لأنهم يعتبرون أنفسهم في الخط الأمامي المدافع عن “إسرائيل” وأنهم أول من يدفع ثمن الهزات الأمنية مع القطاع.
المتضرر الثاني من اهتزاز الوضع الأمني والعسكري مع القطاع هي حكومة بينيت التي أدخلتها العمليات الفلسطينية الأخيرة في قلب تل أبيب وما سبقها في شبه حالة موت سريري خاصة مع استغلال المعارضة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو لهذه الأحداث ودفع المتطرفين الصهاينة للضغط على بينيت في موضوع مسيرة الأعلام وذبح القرابين في المسجد الأقصى. وهذان الأمران تم منعهما بفضل التهديدات الفلسطينية الصادرة من غزة التي وصلت إلى آذان صناع القرار الصهاينة عبر المصريين بأن حدوث هذين الأمرين يعني معركة سيف قدس جديدة. وقد رضخت الحكومة الإسرائيلية لهذا التهديد وعلقت صحيفة هآرتس على هذا الموضوع بالقول “إن حماس تضحك اليوم بعدما أجبرت تل أبيب على الركوع”.
في المحصلة حققت المقاومة الفلسطينية انتصارًا تكتيكيًّا بالنقاط على “إسرائيل” في تثبيت معادلة القدس أولًا، وثانيًا في توازن الردع مع سياسة تنقيط الصواريخ تجاه مستوطنات غلاف غزة والتي أثبتت أن المقاومة جاهزة للدخول في حرب وأن الاحتلال يكذب على جمهوره بتراجع القدرة الصاروخية للمقاومة الفلسطينية، وثالثًا الكشف عن صواريخ الدفاع الجوي التي أطلقت على الطائرات الإسرائيلية المغيرة، وهذا ما يؤكد الجهوزية العالية للمقاومة في التفاعل مع أي تطور عسكري وسياسي قد يحدث.
على الجانب السياسي أعطى تقدير الموقف الأمني للأجهزة الأمنية الإسرائيلية ومجيء الموفد الأميركي الى فلسطين وتصريحات الدول المطبعة حجة لحكومة بينيت في مواجهة الإعلام الإسرائيلي والمعارضة الإسرائيلية بعد قرار منع مسيرة الأعلام. وقد ركز الإعلام الإسرائيلي على الحديث عن تضرر صورة الردع الإسرائيلية مقابل غزة، التي أصبحت مجددًا تفرض خطوطها الحمراء على الجيش والحكومة والمعارضة في “إسرائيل”، وبعد أن كانت حكومات “إسرائيل” في السابق تعمل على الهروب إلى الأمام بشن الحروب على المحيط عند أي حدث أمني أو مشكلة داخلية صارت اليوم تسير وتعدل طريقة تحركها بما تفرضه وترسمه المقاومة الفلسطينية ببضعة صواريخ قد تسقط في أراض مفتوحة وبعيدة مئات الأمتار عن السياج الفاصل. كذلك لا يغيب عن عين وعقل الصهاينة الحركة الشعبية للفلسطينيين في مناطق الـ 48 الذين بدأوا يتظاهرون ويرددون شعارات تنادي “محمد الضيف وأبو عبيدة”، وهذا ما يعني للصهاينة زيادة الخطر عليهم ما بين الضفة والقدس والقطاع، هذا إذا لم تتطور المعركة وتنضم إليها قوى جديدة من محور المقاومة، وهذا ما يبعث على القلق الكبير من معركة قد تبدؤها غزة ولا يُعرف أين تنتهي.