هذا السؤال الضارب جدًا في الجذور، والملحُّ جدًا في الوعي، والذي لا تتوقف أجوبته المتنوعة على مرحلة زمنية أو حتى جانب معين، فهي تشير إلى منظومة متشعبة من الإرادة الأميركية في الشعب السوري.
ربما حان الوقت للبحث بجدٍّ وعمقٍ عن أجوبة هذا السؤال لكي نخرج من نفقه المظلم، ونتخلص من دوامته، ونتجاوز متاهته، حتى لو أحدث نبشهُ صداعًا مزمنًا في التاريخ، أو أرقًا مجهدًا في تقلبات الحاضر، أو قلقًا مخيفًا من مجهول المستقبل.
هذا السؤال الذي ينكأ القديم والجديد من الآلام يجرُّ الكثير من التساؤلات قبلهُ وبعده.
أميركا تلك الدولة الكبرى بكل ما تملكه من مقومات قوة، تلك الكبيرة في الجغرافيا أمام سورية التي تغرق في بحرها، ولها ما لها من إمكانات وقدرات، وعليها ما عليها من صولات وجولات.
ما الذي تريده أميركا من شعب -أو دولة- هي التي أطلقت عليه غرورًا بفروقاتها وتفوقها وغيره من الدول التي تستضعفها لقب “الدول النامية”؟!
إن الأسباب التي دعت لمثل هذا التساؤل كثيرة وليست بخافيةٍ على أحد، فهي لم توفّر أسلوبًا أو نوعًا من أساليب وأنواع تدخلاتها المؤذية في سورية إلا وجربته سواء كان سياسيًا أو عسكريًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا.
وأكثر تلك النواحي التي تجعل التساؤل لاذعًا في الذاكرة، ومؤلمًا للواقع لما له من تبعات وما خلّف من أزمات، هو التدخل الأميركي في سورية من الناحية الاقتصادية تحت عنوان ما يسمى “قانون قيصر”.
ما هو قانون قيصر؟ وكيف اختطف لقمة عيش الشعب السوري؟
هو جملة من العقوبات التي فرضتها أميركا على الدولة السورية، وكل من يساندها في التخلص من الحرب المفروضة عليها، وإحلال الأمن والسلام والازدهار وإعادة الإعمار فيها. وقد انعكست هذه الاجراءات سلبًا على واقع وحياة ومستقبل الشعب في سورية، فقد شملت تلك العقوبات مجالات مختلفة أهمها:
- قطاع البناء وإعادة الإعمار.
- قطاع النفط والغاز.
- خرق السيادة السورية من خلال التدخل في شؤون المصرف المركزي وتقييد نطاق عمله.
- وضع البلد في حالة عزلة عن باقي الدول المجاورة لأن القانون يطال كل دولة أو كيان أو شخص يقوم بالتعاون مع سورية بما تمثله من دولة ومؤسسات وقطاعات في المجالات المذكورة.
بل كثيرًا ما يستحضر السوريون من هذا القانون بمزيج من مشاعر الحزن والسخرية شعْب أبي طالب وحصار كفار قريش لهم.
لقد كان لقانون قيصر الأثر السلبي الكبير في ارتفاع أسعار المواد الغذائية وباقي المواد الأولية الضرورية لاستمرار حركة الاقتصاد والحياة في سورية، وتزايدت معه نسبة عدد السوريين تحت خط الفقر، وتراجع سعر صرف الليرة السورية وشهد هبوطًا حادًا نتيجة عرقلة عمل المصرف المركزي، وقيّد القدرة على الاستيراد والتصدير بشكل فعلي، وكذلك على تنفيذ أعمال تجارية ومشاريع استثمارية، ودعم شركات النقل والبناء للنهوض بالواقع بعد سنوات الحرب والدمار، أي باختصار عمل قانون قيصر على شل حركة وعجلة الحياة في سورية.
كيف تقوم أميركا بعملية فرض إرادتها على الشعب السوري؟
لأن الإرادة الأميركية ليست بطابع أحادي أو تشمل جانبًا دون غيره، بل تطبقُ منظومة إرادة شاملة لكل جوانب حياة ووجود الشعب، احتاج ذلك منها إلى ممارسته إلى جانب أقرانه من الأنواع والأساليب الأخرى لبسط سيطرتها بشكل كلّي، حيث مارست مع الحصار الاقتصادي الحرب العسكرية المباشرة والتشويه الإعلامي والحرب الثقافية الناعمة مثل اللعب على الألفاظ وتفريغ المصطلحات من معناها الحقيقي وحشوها بالمقاصد المضللة، وحبكت بنوده بعبارات فضفاضة لكي تتجنب إثارة غضب أو إيقاظ الشارع السوري وتأليبه عليها، أو تكاتفه ضدها.
إن هذه الأساليب الملتوية هي ديدن العقل الأميركي في كل مشروع هيمنة يخطط له خشيةً من وعي الشعوب، كمشروع ابراهام الذي غلفته أميركا برداء السلام العالمي، واجتياح العراق بذريعة تخليصه من أسلحة الدمار الشامل وجلب الديمقراطية له.
إن حقوق الإنسان لا تتجزأ، ولا تُرى بعينٍ واحدة، فكيف تزعم أميركا أنها تضع قانون حصار مثل قيصر لحماية المدنيين، والجميع يعلم أنه في كل مرة يتم الاتفاق على هدنة بين الدولة السورية والمعارضة المسلحة من أجل حماية المدنيين وتجنيبهم الصراع فإن فصائل المعارضة المسلحة المدعومة من أميركا هي التي تخرق الهدنة، عدا عن تحصنها بين المدنيين داخل المدن والبلدات؟
ناهيك عن تاريخها الأسود في ذاكرة الشعوب في العراق وأفغانستان وأيضًا في فلسطين بسبب دعمها بكل الأشكال للكيان الإسرائيلي المؤقت ضد أصحاب الأرض الفلسطينيين.
ويبقى السؤال السهل الممتنع قائمًا متناميًا ما الذي تريده أميركا من الشعب السوري؟
أملًا في أن يأتي اليوم الذي نبلغ فيه على مستوى الأمة الرشد والنضج الذي يمكننا من طرح التساؤل المصيري الأهم
ما الذي يريده الشعب السوري من الشعب السوري؟
وكيف يحقق الشعب السوري إرادته ويلوي أذرع العابثين بمصيره ومصير أجياله؟
كيف يكون الشعب السوري بهويته وثقافته ونمط حياته مالكًا زمام أموره، ينعم بمقدراته وثرواته وخيرات أرضه بعد تخليصها من براثن الإرادة الأميركية الأنانية ومن لفَّ لفَّها، لا يقتات على سلاتٍ غذائية تُقدم له على كفٍّ من المنِّ والأذى وهو الذي كانت يداهُ مبسوطتين لكل جيرانه؟