عندما نريد طرح قضيّة النهوض في أيّ أمّةٍ كانت، لا يمكن أن نكتفي بمجرّد الذكرى التي تربط الأمّة بفكرة النهوض والاستنهاض فقط، فالموضوع أعمق من كونه يشكّل إرثًا فقط، بل هو يتعدّى ذلك، يتعدّى كونه تذكرة يحملها الماضي والتاريخ.
في كلِّ أمّةٍ تعيش حالة التصالح مع حالة النهوض وضرورة الاستنهاض بين الحين والآخر، لا بدّ من أنّ هناك أسبابًا تختزنها شكّلت عند أهلها “همّ” المحافظة على هذه الحالة، ونرى أنّ أممًا قد تقاتل للمحافظة على هذا النهوض.
إذًا مفاهيم النهضة، فضلًا عن كونها إرثًا تحتفظ به الأُمم، هي مجموعةٌ من القيم تعتبرها الأمّة من الثوابت لتنقلها من الحال الموجود إلى الحال المنشود، وعادةً الحال الموجود هو أدنى من ذلك الذي تنشده الأمّة، وهذا بديهيّ.
الجميل في هذه القيم التي تبدأ مع حادثة معيّنة، كانتفاضة على سبيل المثال، سرعان ما تصبح أيقونة يطلبها سائر آل النهضة في الحوادث اللاحقة، كعناوين يجتازها محبّوها بأن يتحلّوا بها كصفة، وهذا لعلّه ما يفسّر العلاقة التكاملية بين العاطفة تجاه القيمة -والتي تتشكّل في حبِّ القيمة نفسها مع الانجذاب إليها- وحالة الالتزام بها، وهذه العلاقة يعتبرها أهل النهضة من أخلاقيات الانتماء لخطّهم.
ما عبّرنا عنه بالعلاقة التكاملية بين العاطفة والالتزام، ربّما يمكن تفسيره أيضًا بالمسار النظري الذي لا يدخل حيز التقبّل إلا في الإطار الذي يجعله عمليًّا وواقعيًّا، فمن يريد أن يكون معنيًّا بهذا الإرث النهضويّ وهذه العاطفة تجاهه، عليه أن يمارس الالتزام بقيم النهوض، والتي قد تتمثّل في صفتين أساسيتين وهما “البذل” أولًا و”توطين النفس على خوض الصعوبات حتى بلوغ الهدف” ثانيًا، وإنّ أي تراجع عن هاتين الصفتين ما هو إلّا دليل على انخفاض مؤشّر الحماسة، والذي لا يعتبر فتيل النهضة حتّى.
هذا البذل وحالة التوطين هذه هما ركنان غير مختصّين بزمانٍ محدّد، فهما قيمتان كما ذكرنا سابقًا، والقيمة ترافق الزمان حتى نهايته. طبعًا هناك اختلاف بين كيفية هذا البذل بين العديد من المفكّرين، وهل هو البذل بأقصى الممكن أو لا. ويبقى هذا نقاشًا مفتوحًا لا داعي لذكره هنا. ولكن ولأنني أتبنى مفهوم البذل بالأقصى، أذكر هذا التعريف القائل إنّ البذل “هو أن يجود المرء بنفسه، وبكل ما يمتلك بأقصى قدرته عن قناعة وطيب خاطر”، طبعًا مع التخلّق بأخلاقيات البذل حتمًا، أمّا “التوطّن على حالة ما” فهو الاستقرار والثبات على الحالة السابقة أي حالة البذل، وهذا يعني أنّ البذل يسبق التوطين بخطوة ثمّ يستند إليه ليشكّل منه شعور الضرورة بالاستمرارية للفعل.
وعليه، من لم يستطع أن يكون باذلًا، كيف يمكن له أن يعدّ انتماءه لفئة النهضويين حقيقيًّا؟ وكذلك المتذبذب فيه، فمن لم يبذل فهو ليس باذلًا، ولو أنّ الأصح القول من لم يبذل بأقصى قدرته هو ليس باذلًا، والاثنان كذلك ولو ظهرا بصورة أهل البذل، وكذلك الأمر بالنسبة لأولي التذبذب فيه -أي فعل البذل- فمن كان متذبذبًا لا يمكن تسميته بالموطّن، وبذلك تظهر لدينا معالمُ طريق أهل الثبات، البذل والتوطين هما فعلا شخصٍ واحد سمع في أعماقه نداءين، نداء القلب في البذل، ونداء العقل في التوطّن عليه.
وهنا يكتمل المشهد، لكي تنهض عليكَ بالبذل -الذي تعدّدت أساليبه ومصاديقه- وعليك مصارحة العقل بضرورة البذل لسلامة الأمّة، ولكي تحيا فيها رجلًا ولو كلّفك ذلك تحريك الدم وتقطّع الأوصال.