المبنى السياسي اللبناني الممتد لما قبل المتصرفية كان أساسه التناتش بين الشخصيات المختلفة من فخر الدين وصولا إلى شخصيات الانتداب وما بعده، وإلى لبنان الكبير بطوشته ليس أكثر، مرورا بلبنان الحرب الأهلية والطائف ثم لبنان الحالي.
تغيرت الحقبات ولم تتغير العقليات أو بالإحرى لم تتغير العقليات المنفذة التي تحكم البلد بالنيابة والإنابة عن القناصل، فكل شيء تغير في لبنان إلا حكم القناصل لم يتغير، هذا البلد الذي يريد أن يخلع أدوات التحكم به تقيده مجموعة من الخلايا النائمة التي تصحو بين سكر وسكر، لتعود لإغراقنا بصداع ما بعد الثمالة، هذه الثمالة التي لا يعرف من أسبابها إلا سبب واحد وهو رقم كبير في حساب سري في أحد بنوك جنات التهرب الضريبي والفسادي في إحدى دول العالم من سويسرا إلى بانما.
الخلايا النائمة التي تعمل لصالح القناصل التي تعمد اليوم لإطلاق كل ما تملك من مخالب لإبقاء تمسكها ببقايا حصصها في الدولة، وتعمل على استغلال كافة الصفات الرسمية والشعبية والغوغائية لإبقاء رضى القناصل ساري المفعول الى أجل غير مسمى، فعمل هذه الخلايا يشبه عمل داء النقرس في المفاصل، فلبنان إن خلا من داء النقرس السياسي يشكل خطراً على واجهة الاستعمار الأولى في منطقتنا والتي يحميها القناصل برموش العين وتعتمد على الخلايا النائمة التي يتم تشغيلها عند حصول تحولات سياسية قد تهدد الكيان الصهيوني، هذه الخلايا على شاكلة “أبو مازن”، والتي يوجد منها نسخات متعددة على الساحة اللبنانية تختبىء خلف طوائفها، وتتمول من الوزارات والمؤسسات والإدارات العامة، وتوزع مستفيديها بين موظفين في القطاع العام، ومرتزقة في السوق السوداء العامة التي تبدأ بالإتجار بالمخدرات ولا تنتهي بعمليات الخطف والإتجار بالعملة.
إن أزلام القناصل يتوزعون عموديا في تراتبية النظام اللبناني، وأزلام الأزلام الذين يتوزعون أفقيا كفئات شعبية هم يشبهون المقص بشقيه، والشقان هما فئة غبية وفئة مستغبية، فمن يستغبي الناس ويجعلهم الواجهة التي يختبىء خلفها لا شك أنه في حالة خوف وعدم استقرار دائم، فهو إن قصر في أداء واجبه تجاه مشغليه حوسب، وإن أظهر ضعفا ستأكله شعبيته الكاذبة ومرتزقته التي ستفقد يوما وجود ما تسرقه، فالكثير من “المازنيين” اليوم هم تحت ضغط كبير لأنهم فشلوا في تحقيق ما طلب منهم، فرؤوس أموالهم وشركاتهم الخاصة الموجودة خارج لبنان تحت يد المشغل الذي قد يسلبهم أياها بين ليلة وضحاها، وآخر إنجازاتهم أن تراهم يتظاهرون ضد الفساد في محاولة سخيفة لتعويم أنفسهم أمام شعبيتهم.
إن حالة الاهتراء الاقتصادي والسيادي التي وصلنا إليها هي نتيجة حكم وكلاء القناصل على طوال فترة ما بعد الحرب الأهلية في لبنان، وهؤلاء الوكلاء اتحدوا اليوم علنا في وجه القوة الوحيدة القادرة على نفض الرداء الذي ألبس للبنان بالمراوغة والكذب، فهم يعرفون جيدا أن دورهم وبقاءهم مرتبط بإبقاء لبنان دولة فاشلة تدار من قبل بضع سفارات غربية، وأن لبنانَ قوياً وقادرا لا يمكن أن يكون ويقوم بوجود كيان غريب يلاصقه والذي لا يمكن أن يعيش بلا مجال حيوي له امتداد شرقي مع سورية مقاومة، وامتداد جنوبي مع فلسطين محررة. ولمحاربة ضرورة وجود مجال حيوي للبنان نرى فئة منهم يتكلمون عن “الحياد”، الحياد الذي لا وجود له في العالم إلا كمصطلح في بعض الكتب والصحائف وهو من غير مضمون عملي.
إن وكلاء القناصل شغلهم اليومي إطالة عمر الفساد في لبنان، ودعم الخراب والغرابيب السود في سوريا، والتأهيل لاستسلام مقابل الكيان الصهيوني، وإنتاج حالات عشوائية وفوضوية تعم المنطقة بشكل كامل، وهؤلاء الوكلاء هم ضمن المخطط الغربي المرسوم للمنطقة لتنفيذ اجندته، هذه الأجندة التي بدأت بالتآكل العملي مع انتهاء القدرة الصهيونية بفرض سياستها على المحيط، وأما اليوم فحالة التعايش مع هؤلاء الوكلاء قد وصلت إلى الحد الأقصى من الطريق المسدود فلم يعد في الإمكان وجود نموذجين في لبنان نموذج يريده مقاوما وعزيزا وقويا، ونموذج شغله الشاغل الإفساد في الأرض وتكديس الأموال في البنوك الخارجية ويعمل على محاولة تفكيك القوة التي بنيت بدماء الشهداء لصالح الاستعمار.
بكل الأحوال إن مقاومتنا التي بنتها العمائم والدماء، وخرجت من محاريب المساجد لم ولن تلتقي يوما بنماذج الفساد وإن هادنتها لفترة من الزمن، لن تخرج عن كونها تلقائيا قوة طاردة للظلم والفساد، وسيفها العدل ولن يعيش مفسد وفاسد تحت ظل سيف العدل طويلا، وفي انتظار قيام المحكمة الأرضية قبل المحكمة السماوية قد يتشبث الفاسد بأنانيته وبقشة الطائفية ليبقى طافيا على وجه الرماد، وما نراه مع مرور الوقت أن ماء الطوفان الحق يعلو وأن الفاسدين في الأرض يهربون إلى جبال في ظنهم أنها ستعصمهم من الحساب، يوم لا عاصم من أمر الله.
إن أحصنة القناصل وأذنابهم قد قدموا كل ما استطاعوا في سبيل أن يؤخروا تقدمنا، وبمراجعة تاريخية بسيطة نرى تراكم خسائرهم، فمع سقوط شاه إيران الحصان الأول بدأت السبحة تكر ولو أن هذا المسار التاريخي يأخذ وقتا لإتمامه، فإن ما وصلنا إليه اليوم ما بدأنا به بالأمس، وما سنصل إليه غدا هو ما نقوم به اليوم، فتجمّع قوى الفساد في منطقتنا أصبح على شفا جرف هارٍ، وهذه القوى التي تريد إحراق المنطقة بكاملها لتبقى ولو على رمادها قد استنفدت قواها، وبعد أن كانت تختبىء خلف الشعارات الزائفة، فالشعارات سقطت، والوجوه ظهرت، ولم يعد بالإمكان قبول المنافقين والفاسدين في سفينة المقاومة.