لتكن مناظرة

لا يمكن لعالم تتجزَّأ فيه الإنسانيَّة وتتحدَّد المعايير الأخلاقيَّة فيه وفقًا لزمن دون آخر، وتصبح خاضعة لهيمنة القوَّة المسيطرة من ناحية، والجهَّة المتلقِّية المأخوذة بسطوَة الحدث والانبهار العاطفيِّ الموزع بين أقطاب تناسب تلك القوى، لا يمكن له أن يكون عادلًا أو يصغي لمفهوم الآخر إلَّا بما يتناسب مع ميولة وأفعاله.

أبدى الرَّئيس الفرنسيُّ إيمانويل ماكرون انزعاجه الشَّديد من رسم أساء لأوروبا وسخر من الأوروبيِّين، في حين أنَّ فرنسا، وتحت حجَّة التَّعبير عن الرَّأي، والدِّفاع عن الحرِّيات، سمحت وبشكلٍ متكرٍّر أن يُساء لأعظم شخصيَّة عند المسلمين؛ فظهرت معظم ردود الفعل الإسلاميَّة سواء في الأوساط السِّياسيَّة أو على السُّوشيال ميديا، ردودَ شرح واستنكار، وتلميع صورة الرَّسول الأكرم، وكأنَّ تلك الصُّورة بحاجة للشَّرح أو التَّفسير لمن يعرف تاريخ قدوم الرَّسول على مجتمع قبليٍّ صحروايٍّ أوغل في الجاهلية.

بعد الصِّدام الدَّامي مع الكنيسة في القرون الوسطى في أوروبا، وفقد الدِّين من سلطته القويَّة على النَّاس بحيث لم يعد مرجعًا تعود إليه في الأحكام المصيريَّة، وتحوَّلت طبيعة المجتمع إلى مجتمع شكليِّ الدِّين مادِّي الهوى، وغدا التَّديُّن مبادرة فرديَّة، وعلا شأن العلوم والفلسفة والأفكار الجديدة القائمة على التَّجربة والإثبات، أصبحت السُّخرية من الدِّين عندهم أمرًا طبيعيًّا تحت شعار النَّقد الدِّينيِّ والسِّياسيِّ. وعلى الرَّغم من قوَّة الحركة التَّحوُّليَّة في المجتمع الأوروبيِّ في القرون الوسطى، إلَّا أنَّ التَّطرُّف الدِّينيَّ المسيحيَّ لم ينتفِ من المجتمع الأوروبيِّ، والغربيِّ بشكلٍ عام، فالتَّعامل مع رواية دان براون شيفرة دافنشي الَّذي يقول بزاوج السَّيِّد المسيح من مريم المجدليَّة عدَّ إهانة للمسيحيَّة، وتدخَّل الفاتيكان لمنع الرِّواية على الرَّغم من الإقبال الهائل على قراءتها. الأمر نفسه ينطبق على عددٍ آخر من الكتب الَّتي تسلِّط الضَّوء على طبيعة العلاقة مع الله وكيفيَّة التَّسليم لها أو رفضها مثل كتاب الجبل الخامس لباولو كويلو، الَّذي تحوم فكرته حول الصِّراع بين الدِّين والعصر. في ظلِّ هذا النَّموذج الَّذي تطغى فيه جرأة وضع فكرة الدِّين بشكل عامٍّ تحت مجهر النِّقاش من ناحية، وقبول المجتمع الغارق في المادِّيَّة لنمط السُّخرية من المعتقدات المقدَّسة، لا يبدو ذلك عندما يتعلَّق الأمر بالسُّخرية من رموز المسلمين ومعتقداتهم، إذ ينطوي تحت أي حجَّة “الإرهاب”. فرنسا نفسها التي كانت جزءًا من الحروب الصَّليبيَّة على الشَّرق، وكانت جزءًا من القتل والدَّمار والاحتلال، هذا الذي وصفه دان براون في كتابة ملائكة وشياطين معقِّبًا على وجود السَّيف ورمزية معناه في الكنيسة البابوية في روما، وفرنسا نفسها الَّتي كانت جزءًا كبيرًا من حملات الاستعمار الغربيِّ للشَّرق، هي نفسها قتلت الملايين في الجزائر وسوريا ولبنان، مع كلِّ هذا التَّاريخ الدَّمويِّ لا يمكن أن يُنعت دين كامل ينتمي له أكثر من مليار نسمة بالإرهاب، وذلك لحسابات سياسيَّة لها أسبابها الجذريَّة، فالإرهاب في منطقتنا العربيَّة هو صنيعتهم الدَّاهية والماكرة وغرضها التَّشويه والاقتناص من الصُّورة الحقيقيَّة للإسلام مع هدف آخر هو سياسي محض. طبعًا هذا لا ينفي تجذُّر الأصوليَّة في الفكر العربيِّ الإسلاميِّ، الأصوليَّة الَّتي قتلت الكثير من المفكِّرين أو نفتهم، منذ قتل ابن المقفع وتقطيع أوصاله، وتعمُّد الإرهاب مع كلِّ معارض ومفكِّرٍ، مثل قتل المتصوِّفين أمثال الحلاج والسَّهروردي، وقتل رموز مفكريِّ النَّهضة العربيَّة مثل عبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين، وفي ظلِّ وجود ظلال الإرهاب والأصوليَّة عند كلِّ مجتمع تحت حجة الأديان، كان الانقسام العموديُّ بين الأصوليَّة والتَّنويريَّة الخيريَّة أيضًا قائمًا، فمقابل الأصوليَّة دعوة لا يستهان بها للعودة إلى الذَّات الإنسانيَّة وإلى الإله وسلامة المعتقد وتعزيز فكرة الإنسان عند الغرب وعند الشرق، فظهر الفكر التَّنويريُّ مقابل الفكر التَّكفيريِّ داعيًا إلى التَّطابق والتَّماهي بين العلم والدِّين والفلسفة، ولعلَّ مناظرة محمد عبده وفرح أنطون خير دليل. وعند الغرب ظهرت التَّيَّارات الفكريَّة الَّتي تعطي قيمة لدور الإنسان، مثل بيكيت ومترلنك وغيرهما، لذا على الفرنسيين عندما ينعتون الإسلام بالإرهاب مراجعة التَّاريخ كثيرًا لأنَّهم بذلك إمَّا يُعدُّون أنَّهم يتوجَّهون لجمهور غبيٍّ، أو أنَّ القرار مأخوذٌ من أغبياء.

في زمن الحروب الصَّليبيَّة نقلت أمَّهات الكتب العربيَّة الى الغرب، فدخلت الثَّقافة العربيَّة الى الحضارة الغربيَّة وكان لها دور بارزٌ في رفع المكانة الحضاريَّة والعلميَّة والثَّقافية للغرب. وكان للمشتشرقين دور خاصٌّ في إذكاء هذا الامتداد العربيِّ لثقافاتهم، كانت العلوم العربيَّة أحد الأهداف في الحملات الغربيَّة على بلادنا العربيَّة، وهذا ما يعكس اهتمام نابوليون بونابرت في إحضاره المستشرقين الفرنسيين معه إلى مصر لمعرفة ما يكتنزه هذا الفكر من قيمٍ ومفاهيمَ وثقافاتٍ، وهذا ليس دوره تعزيز الدَّور الشَّرقيِّ الإسلاميِّ؛ وإنَّما على سبيل السَّيطرة والإخضاع.

عبر الامتداد للأحداث التَّاريخية العربيَّة أخذت القدرة العربيَّة في استظهار العلوم والثَّقافة والإنتاج الفكريِّ بالانحسار تدريجيًّا، منذ نهاية العصر العبَّاسي الَّذي كان عظيمًا في علومه وحركة الطِّبِّ والتَّرجمة آانذاك، ومع تولِّي المماليك الحكم وانشغال منطقتنا بالحروب الصَّليبيَّة وغزوات المغول، حربًا تلو أخرى، ومع قدوم العثمانيين إلينا، وتحديد وتقييد الأفكار والإنتاجات الفكريَّة فقط بما يناسب الهوى السِّياسيَّ، شكَّلت هذه أساس دخول العرب في عصر الانحطاط من كلِّ الجوانب، إضافة إلى عوامل أخرى رئيسة وثانويَّة، وفي الوقت عينه، لا يمكن لأيِّ عصر أن يخلو من العلماء والأدباء. عندما افتتح العرب الأندلس كانت إسبانيا غارقة في حربها الأهليَّة، وأدخلوا إليها علومًا واسعة وحضارة كبيرة، وفي الوقت الَّذي كانت فيه شوارع قرطبة وإشبيلة مضاءة، كانت باريس غارقة في الظَّلام والوحول، وما زال حتَّى الآن أثر زرياب الأندلسيِّ في التَّرتيب والتَّأنُّق يغزو العالم أجمع، وعلى الرَّغم من العلوم الواسعة الَّتي أدخلها العرب إلى شبه الحزيرة الايبيريَّة، إلَّا أنَّ ذلك لم يمنع المطران خمينيس من حرق أربعمئة ألف مجلَّد من الآثار العلميَّة والأدبيَّة العربيَّة لطمس هذه الحضارة، ولم يصلنا منها إلَّا قليل، كما هو الحال مع طوق الحمامة لابن حزم الأندلسيِّ، والباقي هو مخفيٌّ الآن في مكتبة الأسكوريال في مدريد. طبعًا اخفاء هذه العلوم العربيَّة الهدف منه تسليط الضَّوء على الجانب الظَّلاميِّ للفكر العربيِّ والذي نفسه لا يخلو منه الفكر الغربيُّ والفرنسي خصوصًا. أمَّا عندما احتلُّونا فقد أحرقوا مكتباتنا، وسرقوا كتبنا، وقتلوا شعبنا، ولعبت شياطينهم لعبة القذارة الفكريَّة، وبذلوا جهودًا جبَّارة كانت أرضيتها العربيَّة خصبة عقليًّا واجتماعيًّا لتعزيز الفكر التَّكفيريِّ عند المجتمعات العربيَّة. فمن هو الإرهابيُّ إذًا؟ عندما تسلم عمر بن الخطاب مفاتيح القدس الَّتي كانت تحت إمرة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، لم يتعرَّض ميسحيٌّ واحد للأذى، من هو الإرهابيُّ إذًا؟

لا تبدو فكرة السُّخرية من الدِّين الإسلاميِّ ورموزه وليدة لحظة، أو حدثًا طارئًا استنهض فيه الشُّعور الإنسانيُّ للأقصى، إنَّما له جذوره الممتدَّه من العام ١٠٩٦، هذه الشَّرايين المتغذِّية بالفكر الاستعماري لم تختلف يومًا عن الأصوليَّة المتجذِّرة عند بعض الإسلاميِّين، وجهان مختلفان لهدف واحد، قتل العقل والرُّوح معًا، وإذا ما أصر الفرنسيّون على إرهاب الرَّسول محمد لتكن مناظرة بين العقلانيين من الطَّرفين وليحكم العقل من المنتصر إذًا.

اساسي