قرار قلع الهيمنة الأميركية من لبنان إلى الواجهة

د. حسن محمد* – خاص الناشر |

شهد يوم الأحد 3/10/2021، حدثًا سياسيًا كبيرًا وهامًّا عندما أطلق سماحة السيد هاشم صفي الدين، رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله، موقفًا جريئًا غير عادي وجديدًا على الساحة السياسية اللبنانية التي لم تكن تتوقع من الجرأة التنفيذية لحزب الله بلوغ هذا المستوى، يحمل عنوان “إخراج الولايات المتحدة الأميركية من أجهزة الدولة اللبنانية”، فانطلقت كلماته الأولى من بنت جبيل، المدينة الجنوبية عند الحدود مع فلسطين المحتلة، ذات الرمز الأكبر في رسم المعادلات الكبرى مع العدو الإسرائيلي، ولم تتوقف تداعياته في بيروت، إنما بلغت معالمه أركان الإدارة الأميركية في واشنطن التي “لا تقلّ عداوة عن إسرائيل، وأحيانًا أكثر عداوة منها”.

بهذا الموقف افتتح السيد صفي الدين جبهة جديدة ضد العدو الأميركي بتسميته عدوًا مباشرًا مع إدراك كافة التداعيات لها وإعداد العدة والعديد اللازمَيْن لتلك الجبهة.
لقد اعتاد حزب الله بقرارات “شورى القرار” فيه، تحدي المستحيل والصمود والثبات في المواجهات، لا بل اعتاد النصر فيها على الرغم من قساوتها، حتى بات ينتقل من نصر إلى نصر، ليزيد تراكم الفشل الأميركي بضرب مخططاته، إلى أن جاء قرار المواجهة المباشرة مع الإدارة الأميركية والعلنية في كافة الميادين اللبنانية، وعلى كافة الصعد.

إن الجديد اليوم هو إعلان الحرب الإدارية المفتوحة مع العدو الأميركي، لاجتثاثه من الإدارات الرسمية اللبنانية، مع أخذ الحيطة والدقة لكل خطوة من خطوات المواجهة، تحسبًا لحساسية الوضع اللبناني وتشعّب الاصطفاف الطائفي والسياسي فيه. هذا ما يمكن تلخيصه من عدة كلمات واضحات راسخات في عقول الإدارة الأميركية وأذنابها في لبنان، لتشكّل مرحلة جديدة وميدانًا جديدًا للمواجهة مع العدو الذي دخل عمق الدولة اللبنانية العميقة بمؤسساتها وأفرادها وعبث بكل مقدراتها، إنه العدو الأميركي.

من هنا، لا بدّ من الدخول في عمق القرار المواجهة، من حيثياته ومندرجاته وتوقيته، بالإضافة إلى رمزية الشخصية والمكان، لنستخلص أهميته وحساسيته والوصول إلى مرحلة الانتصار الكبير بالهزيمة الكبرى لمشاريع الولايات المتحدة الأميركية في لبنان. ولذلك نبدأ بالمعطيات والتحليلات المنسجمة مع الوقائع والأهداف، وهي كما يلي:

‌أ. رمزية الشخصية القيادية

  1. البداية من الشخصية القيادية التي أطلقت قرار إعلان المواجهة، التي لا تقل أهمية عن الأمين العام لحزب الله في إدارة الشأن الداخلي والمشاركة في اتخاذ القرارات الكبرى، غير أن ما يميّز هذه الشخصية هو المرونة التي تتحلى بها، والطبيعة الهادئة البعيدة عن مواصفات الشخصيات العسكرية، ما يضفي عليها صفة الإدارة الناعمة المرتكزة على الهدوء في تنفيذ القرارات الإدارية.
  2. يضطلع السيد هاشم صفي الدين بمسؤولية رئاسة المجلس التنفيذي، أي تنفيذ القرارات الإدارية الداخلية وتنظيمها والإشراف على حسن العمل بها ومراقبة كافة الأجهزة والوحدات التنفيذية. وقد جاء إعلانه القرار هذا، تمهيدًا لتوسيع مهامه لتشمل الإجراءات داخل حزب الله وخارجه بما يتعلّق بمؤسسات الدولة ومتابعة مستجداتها.
  3. إعلان السيد هاشم صفي الدين لقرار دخول حزب الله المباشر في اجتثاث العدو الأميركي من مؤسسات الدولة نابع من اعتماد القوة الناعمة والهادئة بعيدًا عن القوة الصلبة التي قد تؤثر على واقع الدولة اللبنانية ومؤسساتها والتعاطي معها بنهج إداري تنظيمي بعيدًا عن التشنج والعسكرة.

‌ب. رمزية المكان

  1. إعلان السيد هاشم صفي الدين عن المرحلة المقبلة من المواجهة مع العدو الأميركي من مدينة بنت جبيل له دلالة واسعة على رمزيتها، تتوافق مع الزيارة الأولى التي قام بها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله لمنطقة الجنوب بعد التحرير مباشرة في 25 أيار 2000.
  2. أطلق السيد حسن نصر الله من مدينة بنت جبيل عبارته الشهيرة “إسرائيل هي أوهن من بيت العنكبوت”، وها هو السيد صفي الدين يعيدها لكن مع عدو أكبر، وبمضمون أوسع، بما يتطابق مع موقف السيد نصر الله وما يؤكد حتمية الانتصار في المواجهة الجديدة.
  3. رمزية مدينة بنت جبيل بصمودها طيلة فترة العدوان الصهيوني في تموز 2006، وعجزه عن الدخول إليها رغم هجماته المتكررة، وقد عُرفت بأنها عاصمة المقاومة والتحرير.

‌ج. رمزية العدو الأميركي

  1. الإعلان الصريح والواضح عن موقعية الولايات المتحدة الأميركية لدى حزب الله، ووصفها بالعدو الذي لا يقلّ عداوة عن العدو الصهيوني أو يزيد أحيانًا عليها، لذلك يترتب عليها ما يترتب على “إسرائيل” وأدواتها، وما يستتبعه من إجراءات وانعاكاسات متداخلة.
  2. جاء توقيت القرار بعد الهزيمة الأميركية الأخيرة في أفغانستان، والحديث المتزامن عن الانسحاب من سوريا والعراق، ما يشكل بدايات الأفول الأميركي من المنطقة، فيكون لبنان شريكًا للدول التي قاومت الغزاة الأميركيين، وبالتالي شريكًا بالتحرير من الهيمنة الأميركية.
  3. جاء القرار بعد مرور سنة وتسعة أشهر على اغتيال الشهيد القائد قاسم سليماني وإطلاق الأمين العام لحزب الله معركة إخراج الولايات المتحدة من المنطقة كلها، ما يعني وضع هذا القرار موضع التنفيذ وبداية العمل عليه.
  4. الدخول في مواجهة عظمى وبشكل مباشر مع أكبر قوة عالمية، يجعل من حزب الله ندًّا غير متوقع لها، لفرض معادلات تصل إلى الإطار الإقليمي بأكمله، وتطال القوى الإقليمية التابعة للإدارة الأميركية في المنطقة، وهو دور كبير يضطلع به حزب الله بمساعدة قوى محور المقاومة.
  5. انطلقت مفاعيل القرار بعد اللُّحمة العميقة لقوى محور المقاومة وتزايد قوتها ومنعتها، ما يجعل من كل تلك القوى وحدة متراصّة تشكّل سدًّا منيعًا بوجه الأميركي وعملائه.
  6. تزامن القرار مع الانصهار المعنوي التامّ مع قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الجديدة، والمشاركة الفعّالة بينهما في المواجهة، وتنسيق الدعم والمستلزمات المعيشية للشعب اللبناني.
  7. جاء القرار على إثر المعادلة القوية التي فرضها حزب الله بإدخال النفط الإيراني إلى لبنان وتهشيم الهيبة الأميركية وكسر قانون قيصر المتعلّق بسوريا وفك الحصار عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

‌د. القراءة الداخلية للقرار ومعانيه

  1. جاء القرار استنادًا لمفعول القوة والقدرة التي يتمتع بها حزب الله. وقد أعلن السيد حسن نصر الله مرارًا، أن حزب الله أصبح قوّة إقليمية، لكن إعلان السيد هاشم صفي الدين هذا المعنى جهارًا وتصريحًا علنيًا دون الاكتفاء بالتلميح هو تأكيد لمفعول التنفيذ والتوصيف الحقيقي، وما يعني بداية توظيف هذه القوة في المعادلات الداخلية بعدما أمعن الأميركي وعملاؤه بتدمير بنيان الدولة وشعبها ومؤسساتها.
  2. جاء القرار بمثابة الإعلان عن مرحلة جديدة من العمل الاستراتيجي لحزب الله وفرض معادلاته المحلية والإقليمية، والتأسيس لواقع جديد في لبنان والمنطقة، قوامه قوة حزب الله العسكرية والاقتصادية والإدارية والتنظيمية.
  3. جانس السيد صفي الدين بين قرار الدخول في الحرب الإدارية الداخلية وبين المعادلات الإقليمية في البحار التي عجزت عن ردها القوة الأميركية والإسرائيلية معًا، ويشير بذلك إلى مدى أهمية القرار والمواجهة الجديدة على المستوى الإقليمي وتنقية لبنان واصطفافه بشكل رسمي ضمن محور المقاومة، سواء على الصعيد الحزبي أو الشعبي أو حتى المؤسساتي وعلى صعيد الدولة.
  4. إيصال رسالة للداخل اللبناني بعدم التعويل على القوة الأميركية المخادعة، وعدم الرهان عليها في أية مواجهة لاحقة.
  5. دعوة القوى المحلية المتعاملة مع السفارة الأميركية للتفكير مليًّا قبل الاستقواء بالقوى الخارجية والتآمر على لبنان وعلى حزب الله، فيكون حزب الله قد اتخذ بهذا القرار وضعية الهجوم المباغت قبل حشره ووضعه في حالة الدفاع عن نفسه التي تفقده التأييد الشعبي وتؤثر على الحالة المعنوية، وتترسخ بذلك مقولة البقاء للأقوى.
  6. دخول حزب الله المعترك الداخلي اللبناني، ورفع درجة الاهتمام به إلى مصاف الاهتمام بالعمل الجهادي المقاوم ومواجهة العدو التكفيري، وما يعنيه من عمل جادّ بالاهتمام بالمسائل الإدارية الداخلية التي تمثّل المنفذ الأميركي إلى لبنان.
  7. رسم القرار معالم طريق المرحلة المقبلة في إصلاح مؤسسات الدولة اللبنانية بعد تمادي الأميركي بإفسادها وتمكين عملائه ووكلائه.
  8. الذهاب إلى المؤتمر التأسيسي الذي اقترحه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، بمفاعيل التطهير المؤسساتي من أذناب الأميركيين، وإرساء قواعد إدارية جديدة تقوم على نظام إداري جديد من جهة، ومن جهة أخرى تنظيف المؤسسات الرسمية.
  9. كف اليد الأميركية عن التحكم بمصير الدولة وشعبها ومؤسساتها، وتحريرهم من التبعية للإدارة الأميركية، وهو قرار عظيم يتطلب استعدادًا عظيمًا يوازي الاستعداد العسكري لمواجهة العدوَّيْن الإسرائيلي والتكفيري معًا.
  10. الذهاب بمؤسسات الدولة إلى الإنتاجية، والابتعاد بها عن الخضوع للمؤامرات الأميركية.
  11. يرسم القرار طريق الانتخابات النيابية المقبلة في لبنان، وما يفرضه على قواعد التحالف، فيكون ميزانًا لتمييز حلفائه عن أعدائه، بوضوح البرنامج والمشروع والمصير.
  12. ينسجم القرار بتطهير المؤسسات من عملاء السفارة الأميركية مع الاهتمام بالوضع المعيشي للبنانيّين على اختلاف مناطقهم وطوائفهم، من حيث رفع الاحتكار والقرارات غير الشعبية، والحفاظ على مدخرات اللبنانيين.
  13. جاء توقيت القرار بعد انهيار أحد أهمّ أعمدة الحريرية السياسية في لبنان، بانقسام تيار المستقبل وخروجه من الإطار الفاعل على الساحة اللبنانية لا سيّما بعد قرار السعودية بملاحقة سعد الحريري ومصادرة أملاكه وصولًا إلى أصوله في لبنان، وخروجه من نادي رؤساء الحكومات المستقبليين، وما تظهره الخلافات الداخلية في التيار، وكذلك بروز خلافاته مع وليد جنبلاط وسمير جعجع وهذا ما ستظهره نتائج الانتخابات المقبلة.
  14. جاء توقيت القرار بعد المماحكة القضائية التي اعتمدها القاضي طارق البيطار في قضية انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، وما يخطط له من سلوك سياسي يسيطر على الأطر القانونية للتحقيق القضائي، ويجعله في مرمى التداول الدولي على غرار المحكمة الدولية العاملة على التحقيق في اغتيال رفيق الحريري.

‌ه. مفاعيل القرار

  1. يطال القرار مختلف مسؤولي الإدارات الرسمية، لما لهم من علاقة مباشرة مع السفارة الأميركية وتنفيذ أوامرها، الأمر الذي أدّى إلى الانهيار الاقتصادي الكبير الذي يشهده لبنان منذ عامين، بعد اندلاع شرارة ما يسمى “ثورة 17 تشرين الأول 2019″، ومدى تأثيرها على الواقع اللبناني.
  2. إن أول من يمكن أن يتحسّس من القرار ويخاف على مستقبله الإداري والسياسي، هو المنغمس في المؤامرة الأميركية ويعمل على تجيير منصبه لخدمة المصالح الأميركية، على رأسهم حاكم المصرف المركزي رياض سلامة الذي لا يألُو جهدًا إلا وقد صرفه بالعمل لصالح الأميركي.
  3. يطال القرار بمضمونه الجسم القضائي الذي لم يثبت استقلاليته عن الأحزاب السياسية العاملة على تنفيذ القرارات الأميركية، أو حتى عن السفارة الأميركية مباشرة، طيلة السنوات الماضية، وبالتالي فإن هذا الجسم يسلك مسلك تحقيق الأهداف السياسية لها، وذلك بما شهدته المحاكمات القضائية لعملاء لحد، وما كانت عليه في التحقيق باغتيال رفيق الحريري من استتباع لرغبات السياسة الأميركية، وصولًا إلى قضية إخلاء سبيل عامر الفاخوري وتهريبه إلى الولايات المتحدة، وأخيرًا في قضية انفجار مرفأ بيروت بعد التحذيرات المتتالية بعدم تسييس التحقيق والوقوف مليًّا عند عدم تنفيذ المخطط الأميركي به.
  4. يُعتبر القرار إنذارًا رسميًا واضحًا وصريحًا لكل من تسوّل له نفسه التآمر على الدولة وشعبها ومؤسساتها، وتهديدًا علنيًا لإخراجه من منصبه ووظيفته مع تحمّل كافة تبعات العمالة للأميركي.
  5. يعتبر القرار رسالة إلى جميع متنفذي الإدارات الرسمية، من وزراء ونواب وحاشيتهم المتمركزة في أجهزة الدولة، نزولًا إلى قيادة الجيش وقيادة القوى الأمنية إلى حاكم مصرف لبنان، إلى المديرين العامّين، وصولًا إلى صغار الموظفين، ومن غير المستبعد أن يستغني الأميركي عنهم في أية لحظة لعدم أهميتهم الشخصية بالنسبة إليه إذا ما قيست بمصالحه وأفراده.

‌و. المواجهات المتوقعة
ابتدأ السيد هاشم صفي الدين بمحذور الواقع اللبناني وما يمكن أن يسببه القرار من ضجيج وانقسام اللبنانيين فيما بينهم، غير أن هذا المحذور قد يسقط عند الحاجة الملحة للبدء بالتنفيذ من أجل كف التدخّل الأميركي بعدما باتت مشاريعه ومخططاته واضحة المعالم والاستهداف والهدف.

لذلك يثير هذا القرار حساسية عالية لدى عملاء السفارة الأميركية في بيروت لتقديم الطاعة مجددًا لها، سواء كانوا أحزابًا كالقوات اللبنانية وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وغيرها من الأحزاب الساعية إلى إظهار نفسها بعد انقراضها، أم جمعيات المجتمع المدني أم عملاء صغارًا على شكل وزراء ونواب وموظفين، ومن المتوقع أن نشهد نبرة عالية منهم نظرًا للمساس بمصالح سيّدهم الأكبر ما يؤثر على مصالحهم الخاصة والفردية.

استنتاج
يقود الانتصار في هذا الميدان إلى نتيجة حتمية تفضي إلى الهزيمة الأميركية في لبنان، بعد تراكم الفشل الأميركي منذ العام 1982، وإلحاق الهزائم بها في المنطقة، وليس آخرها الانسحاب القسري من أفغانستان بعد احتلال دام لعقدين من الزمن، أنفق عليه أكثر من تريليون دولار حسب اعترافهم بألسنتهم في أكثر من تصريح.

ومن أجل تحقيق الهدف الأكبر، الذي يتمثّل بالهزيمة الأميركية في لبنان، لا بدّ من إحكام برنامج العمل والسير به باسم الشعب اللبناني وإن كان بينهم من يذوب تضحية كرمى للسفارة الأميركية وبغضًا لحزب الله ومقاومته، لأن الوقت قد حان لتعرية العملاء وعدم السماح لفئة ضالة ومتعاملة ومدمرة للبنان أن تبقى على كرسي الحكم، مهما اختلف موقعها السياسي أو الديني أو الإداري، كما يجب وضع لبنان على قائمة الدول المستقلّة فعليًا، تنفيذًا لشعار الدولة القوية العادلة المستقلة.

*أستاذ جامعي وباحث سياسي

اساسيالسيد نصر اللهالوللايات المتحدةحزب اللهلبنانهاشم صفي الدين