في بلدٍ تهالك فيه البشر والحجر، واختفت فيه مقومات الحياة الأساسية والعيش الكريم، تربّعت مشكلة الكهرباء على رأس هرم المشاكل الكبرى التي يعاني منها البلد منذ زمن.
هذا القطاع الذي صُرفت عليه أموالٌ تبني بلدًا بأكمله، ما زال يعاني من تغلغل الفساد بين مفاصله. معاناةٌ أغرقت وطنًا منذ أكثر من ربع قرنٍ بين مخالب وحش الديون وفي غياهب الظلمات التي ستبقى، ربّما، لأجل غير مسمّى.
كهرباء لبنان: تاريخ حافل بالفشل
يختزل ملف الكهرباء في لبنان صور الفساد المليئة بالصفقات المشبوهة، والتي جعلت من العتمة روتينًا وواقعًا تأقلم معه اللبنانيون على مدار أكثر من 30 عامًا بعد انتهاء الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف عام 1989، دون أن تفضي الوعود لحل أزمة الكهرباء وتحسين خدمتها. والجدير بالذكر أنه خلال هذه الفترة تعاقب على تولي وزارة الطاقة والمياه 16 وزيرًا من مختلف أطياف السلطة، مما يعني أنهم جميعًا شاهدون على خفايا ملفات الفساد في هذا القطاع والصفقات المعقودة تحت عنوان إصلاحه وتنميته والتي بدورها فاقمت الدين العام بشكل هستيري.
يعتمد لبنان في توفير الكهرباء على 7 معامل حرارية موزعة على مختلف المناطق، وهي تستخدم المحروقات مثل “الفيول أويل” أو “الديزل أويل” أو “الغاز أويل” عبر استيرادها. ومع دخول لبنان في حالة الانهيار الاقتصادي الكبير وفقدان العملة الوطنية لأكثر من 90% من قيمتها، فإن تأمين هذه المحروقات بات صعبًا ومكلفًا للغاية، الأمر الذي أدخل البلاد في مرحلة العتمة الشاملة.
وبالعودة إلى الأسباب التي أوصلت هذا القطاع إلى التهلكة، يذكر مدير عام الاستثمار السابق بوزارة الطاقة والمياه، غسان بيضون، عدة أسباب، أبرزها ارتفاع تكلفة إنتاج الكهرباء الذي يعود الى ضعف الكفاءة والهدر الداخلي، ولأن المعامل القديمة تحتاج لنقل “الديزل” بالصهاريج، مثل معملي صور وبعلبك، أي أن كلفة تشغيل المعامل مرتفعة، ويضيع من إنتاج الكهرباء نحو 40% بين هدر فني وسرقة، إضافة لنحو 10% تأخر بالجباية، بالإضافة الى عدم إشراك القطاع الخاص في عملية إنتاج الكهرباء حفاظًا على الصفقات المشبوهة، وصولًا الى تجربة بواخر الكهرباء التي كبّدت الدولة خسائر وتكاليف باهظة، قاربت المليار دولار سنويًا!
الحلول: بين المؤقتة والجذرية
تلوح في الأفق حديثًا خطط واقتراحات لإيجاد حلول سريعة ومستعجلة لملف الكهرباء، وقد كان آخرها الخطة المقدمة من وزير الطاقة والتي وافق عليها مجلس الوزراء وأقرها، وتحدد الخطة 3 محاور لحل الأزمة، حيث يتضمن المحور الأول انشاء 3 معامل حرارية جديدة، مع العلم أن هذه المعامل تعتمد على مصادر الطاقة الثلاثية، أي الغاز الطبيعي، والفيول HFE، والديزل الذي يعتبر أغلى مصادر الطاقة في العالم وأكثرها تلويثًا.
أما المحور الثاني، فهو يرتكز على استقدام معامل انتاج مؤقتة، أي البواخر، وقد أثبتت التجربة السابقة أن هذا الخيار هو استنزاف كبير لأموال القطاع الكهربائي دون أن يقدم حاجة وافية من الكهرباء. اما المحور الثالث والأخير فهو ينص على إنشاء محطات تغويز ( تحويل الغاز السائل الى غاز جاهز للاستثمار ) ولكن الأمور بالتأكيد ليست بهذه السهولة، إذ إن الدول القادرة على تزويد لبنان بالغاز ما زالت قلقة ومترددة بهذا الشأن، خوفًا من مفاعيل قانون قيصر الذي يمنع تمرير الكهرباء عبر سوريا.
ويضاف الى بنود الخطة، تعرفة الكهرباء الباهظة الثمن والتي من الوارد جدًا انها ستتحدد على اساس سعر منصة صيرفة، فضلًا عن انه لم يتم لحد الآن ذكر الخيارات البديلة او مصادر التمويل المتاحة بحال عدم موافقة صندوق النقد الدولي على اعطاء القروض للبنان.
ربما يرى البعض أن قطاع الكهرباء في لبنان يحتاج الى ما يشبه المعجزة ليتم اصلاحه، الا أن الحلول هي أبسط مما يُعتقد و يُفهم، فهذا البلد قادر على معالجة الأمور بما لديه من آبار نفط وغاز إن أبصرت النور قريبًا، بالإضافة الى إمكانية وجود جهود جدية لاعادة هيكلة القطاع بكل ما فيه وتخليصه من أيدي رعايا الفساد، ولكن كان الله بعون شعبٍ يتربّص به عدو خارجي غاشم، ويستنزف روحه عدو داخلي فاسدٌ ظالم.