هل المستوطنون الصهاينة مدنيون أبرياء فعلاً؟

هيئة التحرير

في زمن التطبيع، بدأت “لغة الإنسانية” تتسلّل إلى خطاب بعض الإعلام العربي وجحافل الكتّاب والإعلاميين والناشطين المسترزقين من المؤسسات العربية التابعة لأنظمة التطبيع أو لجهات على يمين تلك الأنظمة ويسارها. وصار من المألوف أن ترى تعليقًا أو موقفًا لأحدهم، يتضامن فيه مع المستوطنين الصهاينة الذي يُقتلون على يد الفلسطينيين كردة فعل على العدوان الصهيوني المستمر والمتواصل والمتمدّد. يجادل الإنسانيون بأن بعض القتلى مدنيّون ولا علاقة لهم بالصراع، بعد أن كان هذا الخطاب منحصرًا لعقود بمحمود عباس وحسني مبارك وملك الأردن، فضلًا عن رؤساء الإدارة الأميركية المتعاقبين، وممثلي المجتمع الدولي ومؤسساته.

“ليس في مجتمع إسرائيل مدنيون. كلهم غزاة، كلهم محتلون، كلهم مغتصبون للأرض، كلهم شركاء في الجريمة وفي المجزرة”، يقول الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله في خطاب له عام 2001 بمناسبة يوم القدس العالمي. موقف السيّد نصر الله هذا لا ينبع فحسب من كونه أمينًا عامًا لحزب مقاوم له باع طويل في مواجهة “إسرائيل” وجيشها، بل أيضًا من كونه محيطًا بالحقائق التاريخية التي سُجّلت في موازاة تكوين دول الاحتلال هذه، والمراحل التي مرّت بها.

حقيقة الصهيونية
في العام 1938، وفي سياق ثورة القسّام الفلسطينية، قال دافيد بن غوريون بوضوح: “نحن هنا لا نجابه إرهابًا وإنما نجابه حربًا قومية أعلنها العرب علينا. وما الإرهاب سوى إحدى وسائل الحرب ضد ما يعتبرونه اغتصابًا لوطنهم من قبل اليهود، ولذا يحاربون، ومن وراء الإرهابيين حركة قد تكون بدائية ولكنها ليست خالية من المثالية والتضحية بالذات. يجب ألا نبني الآمال على أن العصابات الإرهابية (يقصد المقاومة) سوف ينال منها التعب، فإذا ما نال التعب من أحدهم فسوف يحلّ آخرون محلّه. فالشعب الذي يحارب ضد اغتصاب أرضه لن ينال منه التعب سريعاً. وحينما نقول إن العرب هم البادئون بالعدوان ونحن ندافع عن أنفسنا فإننا نذكر نصف الحقيقة فقط. ومن الناحية السياسية نحن البادئون بالعدوان وهم المدافعون عن أنفسهم، لأن الأرض أرضهم قاطنون فيها بينما نحن نريد أن نأتي ونستوطن، ونأخذها منهم، حسب تصورهم”.

كلام بن غوريون هذا يبيّن منذ البداية إدراك الصهاينة وقادتهم الأوائل لطبيعة الغزوة الصهيونية الاستيطانية الاحتلالية وطبيعة المقاومة العربية. وعليه، يبرز السؤال عمّا إذا كان المستوطنون الصهاينة مدنيون أبرياء فعلًا أم أنهم غير مدنيين ولا أبرياء.

عسكرة المجتمع
تأسيسًا للفكرة، يقول عالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيمرلينغ (1939 – 2007) في كتابه “العسكرة في المجتمع الإسرائيلي”، إن النهج الاجتماعي المركزي الذي مرّ فيه “المجتمع الإسرائيلي” يعتمد على استيعاب الصراع الإسرائيلي – العربي والإسرائيلي-الفلسطيني وفق “هيكلة واقع اجتماعي” يظهر كأنه واقع روتيني غير قابل للتغيير. وأحد الأمثلة هو عرض الصراع الإسرائيلي-العربي والصراع اليهودي-الفلسطيني كـ”صراع أبديّ”. وعليه، حوّل تنميط الصراع والحرب “المجتمع الإسرائيلي” إلى مجتمع جاهز للتجنيد فورًا لتحقيق هدفين:

  • الأول: التجنيد ضمن صفوف الاحتياط لتحقيق حسم عسكري سريع بجيش متوسّط الحجم.
  • ثانياً: تنظيم ناجع للجبهة بطريقة تضمن استمرار حسن الأداء بالرغم من عودة عدد كبير من الجنود إلى الروتين الحياتي مع انتهاء فترة التجنيد الإجباري.

أما وظيفة عسكرة المجتمع الإسرائيلي بحسب كيمرلينغ، فيرى أن العقيدة العسكرية – الأمنية هي وسيلة لمأسَسة العسكرة المدنية في “إسرائيل”. فحقيقة أن “كل الشعب” يؤدي الخدمة العسكرية تعتبر جزءًا من العسكرة المدنية، إذ تكوّنت هذه العقيدة كرد فعل على الصراع الدائم. وعلى عكس ما تدعي، فالعقيدة العسكرية الإسرائيلية مشتقة من أسس وأفكار ايديولوجية ساهمت بصياغة تصرفات الأفراد وعلاقتهم بالجماعة، وبالتالي أصبحت العقيدة العسكرية جزءًا من الديانة المدنية للمجتمع وأسّست ثقافته السياسية.

بالرغم من أن العقيدة العسكرية هي نتاج احتياجات وعوامل جغرافية – سياسية وعسكرية، لكن تحويلها لأنظمة مؤسساتية يحوّل المجتمع “الإسرائيلي” إلى مجتمع مجنّد على الصعيد المؤسساتي والذهني والقيمي. خصوصًا وأن من أسس الخطاب الأمني الإسرائيلي التي ارتكزت عليها عقيدة “الأمن القومي” هي أن “إسرائيل” هي مجتمع من المهاجرين – المستوطنين، تعيش حالة صراع مستمر على وجودها، وبالتالي فإن أي انتصار عسكري إسرائيلي هو دورة إضافية في الصراع طويل الأمد بين اليهود والعرب، بينما الهزيمة تعني تدميرًا سياسيًا للدولة اليهودية.

كل مدني هو جندي
استنادًا إلى الحقائق الموضوعية في دولة الاحتلال الصهوينية منذ إقامتها حتى اليوم، تكمن الإجابة. ففي ليلة 15 أيار 1948، أصدر “مجلس الدولة المؤقت الإسرائيلي” ما سمّي “إعلان الاستقلال”، مشهراً بذلك الدولة التي كانت “الوكالة اليهودية” قد أقامت مؤسساتها الدستورية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية زمن الانتداب، بدعم بريطاني ورعاية “عصبة الأمم”، وتمويل الجاليات اليهودية الأميركية والأوروبية. وكان بن غوريون غداة توليه رئاسة الوزارة الأولى قد شغل منصب وزير الدفاع، ولتطوير الجيش وفق المخطط الذي اعتمده “حزب المباي” العمّالي قد عهد إلى إيغال يادين برئاسة الأركان العامة، وكلّفه بإعادة تنظيم الجيش وصياغة عقيدته العسكرية، فشكل لجنة برئاسته للعمل على المستوى الاستراتيجي، انتهت إلى أن مشكلة “إسرائيل” الأساسية تكمن في نقص قواها البشرية قياسًا بمحيطها العربي. وعليه، توصّلت اللجنة إلى الحل التالي:
1 – تشكيل نواة نظامية محترفة تضم ضباطًا وصف ضباط وعددًا من المتخصّصين كجيش بَرّي، إلى جانب سلاحي الطيران والبحرية وجهاز الاستخبارات من محترفين ومجندين نظاميين.
2 – تشكيل قوة عاملة من المجنّدين لثلاث سنوات للرجال، وسنتين للنساء، يتكوّن منها معظم الجيش البَرّي، بحيث تتيح فترة التجنيد الطويلة الوقت اللازم لتدريب القوات العاملة، والتدريب الدوري، وتأمين الحدود في الحالات العادية.
3 – الاستدعاء الدوري لضباط وجنود الاحتياط، بعد تسريحهم من الخدمة العاملة، لتدريب سنوي، بين 21 و38 يوماً للضباط و14 و21 يوماً للجنود، للاحتفاظ بكفاءتهم القتالية واستيعابهم الأسلحة الحديثة، وللاحتفاظ بلياقتهم البدنية. وقد نقل عن يادين قوله: “إن كل مدني هو جندي في إجازة لمدة أحد عشر شهراً في السنة”.

شجرة الزيتون تشهد
عام 1948 أنشئت منظمة “النحال” (طليعة الشبيبة المقاتلة) شبه العسكرية، وتعتبر إحدى مؤسسات الجيش الإسرائيلي، وغايتها إعداد كوادر الاستيطان الزراعي من الشباب والفتيات بعد أدائهم الخدمة العسكرية الإلزامية ليتاح لهم الاستيطان في مستعمرات على الحدود .

وكان قد جرى إعلان الهاغاناه جيشاً نظامياً باسم “جيش الدفاع الإسرائيلي” في 26-أيار 1948 في محاولة إكساب جيش الغزاة ملمح قوة المقاومة الوطنية المشروعة دوليًا. وقد ضم إليه عناصر منظمتي “الأرغون” و”شتيرن” الإرهابيتين بعد التعهّد بعدم العمل بالسياسة داخل الجيش.

يذكر المؤرّخ “الإسرائيلي” إيلان بابي، في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين”، أن بن غوريون أبلغ “الهيئة الاستشارية الصهيونية” في 7 تشرين الأول 1947، أي قبل صدور قرار التقسيم، بأنه “لا توجد حدود إقليمية للدولة اليهودية”، وعليه بدأ التطهير العرقي فور صدور القرار 181 بتقسيم فلسطين بسلسلة هجمات على قرى وأحياء عربية. وفي مساء 10 نيسان 1948 اعتمدت الخطة “دلت” للتطهير العرقي. وفي مساء ذلك اليوم، أُرسلت الأوامر لوحدات الهاغاناه للقيام بطرد منهجي للعرب في مناطق واسعة من فلسطين، وأرفقت بوصف مفصّل للأساليب الممكن استخدامها لطرد الناس بالقوة، مثل: إثارة رعب واسع النطاق، وحصار وقصف القرى والمراكز السكنية، وحرق المنازل والأملاك والبضائع، وهدم البيوت والمنشآت، وزرع الألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إليها.

ولم تتقيد القوات الصهيونية بالقرار الدولي المُنشئ للكيان الصهيوني، إذ تجاوزت حدود التقسيم بالاستيلاء على 50% من المنطقة التي خُصّصت للدولة العربية، كما على منطقة القدس الدولية. وباعتماد “التطهير العرقي” جرى تهجير ما يجاوز 61% من مواطني الأراضي المحتلة واغتصاب منازلهم التي جرى استيطانها.

حتى أشجار الزيتون لم تسلم من التطهير، إذ اعتُبرت أشجارًا عربية تدل على عراقة العمران العربي في فلسطين. ولإكساب الكيان مظهرًا أوروبيًا، غُرست بدلًا منها أشجار الصنوبر والسرو. وعلى أنقاض القرى العربية أقيمت المستعمرات الاستيطانية. وما زالت عمليات هدم المنازل وتشريد سكانها واقتلاع أشجار الزيتون والتعسّف في الممارسات العنصرية، والتوسع في اغتصاب الأرض واستيطانها سارية المفعول بما يؤكد أن المستوطنين الصهاينة ليسوا مدنيين وإنما هم جنود نظاميون، أو جنود احتياط على تواصل دائم مع الجيش، وقد شارك غالبيتهم العظمى، ولا يزالون، في العدوان المتواصل على الشعب العربي في فلسطين المحتلة ومحيطها.

اساسياسرائيلالمستوطنون