علي حجازي* – خاص الناشر |
تتّخِذ الأمبراطوريّات المُهَيمِنة عبر التاريخ عدة أشكال للسيطرة على مناطق نفوذها، نظرًا لأن الاستعمار المباشر لا يستطيع وحده تحقيق الهدف الاستعماري، بحيث تتجِه إلى أهداف استراتيجيّة أخرى، تهدف إلى تفريغ المنظومة القِيَميّة لدى الشعوب المُستعمَرة، وتسلب إرادة المواجهة بغية الاستسلام والرضوخ. فتُجَفِّف منابع القيَم، وتُفَكِّك مباني المبادئ الراسخة، ثم تَتَغَلغَل ضمن منظومة القيَم الإنسانية داخل المجتمعات، هادفةً إلى طمس الهويّة وإنشاء هويّة مجتمعيّة خاضعة لسيطرة الإمبراطورية، وبالتالي خلق مجتمع خاضع ومُسَلِّم، خالٍ من الإرادة والعزيمة، ما يضمن الخضوع المطلق.
منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، منتصف القرن الأخير من الألفية السابقة، بدأت تتشكّل ملامح الإمبراطوريّة القادمة التي ستحكم العالم في السنوات المقبلة، والتي ستكون الإمبراطوريّة الأقل حظًّا في تاريخ الإمبراطوريات، إذ إنها ستواجه عدة عوامل، إنسانية وثقافية وعسكرية، لِتَجعلها الأصغر سِنًّا، بالنظر إلى ما نشهده اليوم من مؤشرات تدلّ على اقتراب موعد “انحلال” القوة المطلقة التي تتمتّع بها، ومن النواحي كافة، لتحلّ محلّها عدّة قوى صاعدة تُنذر بأننا على موعد ليس ببَعيد مع انتهاء “أحاديّة القوّة” من قِبَل امبراطورية الولايات المتحدة الأميركية.
اتَّخَذَت، وتَتَّخِذ الولايات المتحدة الأميركية، من العبث في مباني القيَم لدى المجتمعات، احدى أبرز وسائل السيطرة التي يمكن تسميَتَها بـِ “حرب الهيمنة على الهُويّات”، بحَيث تقوم بحياكة نَسَق هويّاتي تابِع لها تضمن من خلاله تشكيل كادر قِيَمي يتبع مبادئ الخضوع والاستسلام، وحقن العقول بلقاح غربيِّ الثقافة والانتماء، مضاد للوعي والعقيدة والتبَصُّر.
في بلادنا، تشنّ الولايات المتحدة الأميركية حربًا شعواء على المبنى القيَمي الذي تتميَّز به المجتمعات في منطقتنا بشكل عام، وقوى المقاومة –بما تشكّل جزءًا من المجتمع- بشكل خاص، كونها اكتشفت من خلال سنوات الصراع الطويلة، أن تلك القوى المعادية (لها) تتميّز بمتانة الهيكل القيَمي، وهو ما يجعلها (المقاومة) تقف عثرة في مسار تنفيذ مشاريعها التوسّعية، كما وإنشاء منطقة خاضعة حول الكيان الصهيوني المحتلّ (الحليف الأول لها في المنطقة). وبعد إفشال الخيار العسكري في تنفيذ المشروع المنشود، انتقلت الامبراطورية إلى خيار الإخضاع الفكري: الثقافي – القيَمي.
لا تزال محاولات العبث في القيَم قائمة منذ سنوات طويلة، فقد اكتشفت أميركا (والتابع لها “اسرائيل”) أن قوى المقاومة، وعلى رأسها حزب الله، تبني أفكارها على قواعد ثقافية قيَميّة متينة، تشكِّل قيمةً مضافة وعنصر قوّة أساسيًّا، يصعب اختراقها كما انتزاعها من عقول المجتمع المقاوم، ورغم مرور تلك المدة الطويلة من دون تحقيق المُبتَغى، لا تزال الولايات المتحدة ترى أن الأمر ليس مستحيلًا، وتحيك الخُطَطَ تلو الخُطَط، واستخدمت لأجل ذلك كافة الوسائل المتاحة في كل فترة من فترات المواجهة التي لا تنقطع.
بعد انتفاضة 17 تشرين، وبطبيعة الحال، كانت الولايات المتحدة بالمرصاد، وأخذت على عاتقها تشتيت الوعي الجمعي لدى المنتفضين، والذي لم يدم أكثر من ساعات معدودة. لعبت أميركا على عدة أوتار في معركتها المُستجدّة، أهمّها العنصر القيَمي، واستخدمته لصالح حربها ضد المقاومة، سيَّرت من خلاله المجموعة الأكبر من فصائل “المجتمع المدني” التي أصرّت على مشروعيّة تلك الانتفاضة بشكلها الأميركي لا الإنساني المُحِقّ، بعدما جيّرت عقول الشباب ووَعيهم لصالح مشروعها، وأصبحوا بعدها أجسادًا تلاطِمُها الموجات من دون أدنى مقاومة.
شَيطنة المقاومة كمشروع
لا يختلف عاقلان على طول مساحة الوطن أن المقاومة لم تشارك في عمليات الفساد والسرقة منذ دخولها الميدان السياسي المباشر، الأمر الذي أربَك خصومها وأعدائها في الداخل والخارج، المتربّصين بها عقب انتفاضة 17 تشرين، إذ لا يمكن التصويب على المقاومة في هذا المضمار. عندها راحوا يبتدعون مسارات أخرى بغية إشراك المقاومة ضمن دائرة الاستهداف المباشر.
تحوّل مسار الانتفاضة الاجتماعية، بعدما انفضّ عنها أنصار المقاومة، إلى ميدان لاستهداف النهج المقاوِم، كمشروع قيَميّ، وما انفكَّت “الأدوات الجدُد” لدى الامبراطورية عن التصويب نحو منظومة القيَم المجتمعيّة الإنسانية التي تتمتَّع بها بيئة المقاومة.
نتحدّث هنا عن سلوك خبيث يهدف إلى تقويض قدسية مشروع “الممانعة” بغية الانقضاض عليه والتنكيل بمشروعيّته، وصولًا إلى سحق المقاومة خدمةً لمشروع “الإمبراطورية” التوسّعي. وفي هذا السياق نحن لا نضخّم الأمور بتاتًا، ولا نحشر أنفسنا في ميدان كبير وسعُه العالم. في الحقيقة إن مشروع المقاومة، في منطقة حيويّة ومهمة كالشَرق الأوسط، شكّل عقبة صَدّ المَدّ الاستعماري، وفي هذا الإطار لا يجب أبدًا أن نستهين بما فعلناه وما حقّقناه في مواجهتنا ضد المشروع الامبراطوري. ربما “صيصان” السفارة لا يستَوعبون هذا الأمر نظرًا لانعدام الثقة بالنفس وفراغ الفكر من الوعي الثوري.
بالعودة إلى موضوعنا، شكّلت منظومة القيَم لدى مجتمع المقاومة محطّ جذب اهتمام القوى الخارجية المتربّصة، بدأت معها، منذ عقود، محاولات انتزاع تلك المنظومة القيَميّة والتخلّص منها، ما يعني تعرية بيئة المقاومة من مكامن القوّة الفعالة في المعركة الوجوديّة التي تقودها نحو البقاء والتحرّر.
وعقب انتفاضة 17 تشرين، ونظرًا لاستفحال المعركة ضد المقاومة، استغلّ الأميركي نقاط الضعف لكي يصوِّب مسار المواجهة نحوها، رغبةً بخدمة مشروعه الأسمى، ألا وهو سحق كافة الحركات التي تقف في طريق مشروعه التوسّعي.
وكون المجال إلى معركة عسكرية مقفلًا حاليًا، لعدة عوامل لسنا في وارد طرحها، تم تفعيل خطّة تجريد المجتمع من قواهُ القيَميّة، عبر محاولة تقليص قدسيّة تلك القيَم وإفراغها من مضمونها، وبالتالي إزاحة مداها التأثيري عن المنظور الفكري لدى حاملي قضية المقاومة كقيمة أساسية ومقدّسة. هم يريدون تحويل “القيمة” إلى “عبء”، وبالتالي تنفير الناس منها وتخلّيهم عنها.
تارةً يتّهمون المقاومة بأنها تغطّي الفاسدين، وتارةً أخرى يضمّونها إلى جوقة المُفسدين والسارقين، مريدين بذلك شيطنتها واللعب على وتر الوَعي الشعبي عبر زراعة أفكار تُشَيطِن القيمة التي يتمسّكون بها، بهدف وصولهم إلى تأييد فكرة التخلّي عنها، بل وطلب ذلك كونها لم تعُد تلك القيمة المقدّسة التي تميّزهم عن باقي المجتمعات. وهنا يُشهَر الواقع اللبناني سلاحًا في وجه المقاومة، فيتم “تعييرها” بطبيعة تحالفاتها وتظهيرها على أنها تحميهم، بينما واقع الأمر أنه لا مكان في هذه البقعة إلا للتعايش والتضامن، لأن البديل عن هذا الامر هو الفوضى والدمار، وكل قوى تحتمي بشعبيّتها ونفوذها في المنظومة السياسية والادارية التي تحكم الدولة، ولا تحتاج حماية سياسية من قبل حزب الله، وهذا ما شهده اللبنانيّون في العقود الماضية، وهذا أيضًا ما يمثّل مقتلًا للمقاومة كمشروع وحركة، لذا وجب الحفاظ على السلم الأهلي والتعايش والمقبوليّة، وتحصين المقاومة وطنيًا وطوائفيًا وشعبيًا على كافة مساحة البلد. وتلك قيمة أيضًا.
الصَّبر
بعكس الصورة التي يرسمها البعض على أنها تمثّل نوعًا من الاستسلام، يشكّل الصبر احدى القيَم التي يتميّز بها المجتمع المقاوِم، وهي صفة لا تعني بتاتًا الخنوع والخضوع والتسليم للأعداء، على العكس تمامًا، إن الصبر كَـ “قيمة”، هو وسيلة من وسائل المقاومة وأداة في إفشال خطط العدو وتحقيق الانتصار عليه. وهذا ما جرّبه أهالي الجنوب، مثلًا، طيلة 18 عامًا من المقاومة، استطاعوا بعدها بصبرهم وتحمّلهم توازيًا مع العمل المقاوم، تحقيق الانتصار والتحرير من دون قَيدٍ أو شرط. وحين يُصاب المجتمع -أي مجتمع- بأزمة، مهما كانت طبيعتها، عليه التحلّي بالصبر المُؤازِر للعمل والتخطيط الواقعي والمنطقي، والعزيمة على المقاومة والاستعداد للمواجهة ومراكمة القوّة، تلك الخلطة التي تُشكّل ما يُسمّى بالصبر الاستراتيجي، تجعل الأمل يعلو فوق اليأس والإحباط، وتلك هي مفاتيح تخطّي الأزمات.
وقد تعرّض شعار الصبر، الذي رفعته المقاومة، لكثير من الاستهداف في السنتَين الماضيتَين، وفي كل مفترقٍ تستفحل فيه الأزمة الداخلية، حتى بِتنا نظن أن الصبر هو الذي صنع معاناة المواطنين وسرق أموالهم، أما الحقيقة فإن الصبر مفتاح النجاح في تخطّي الأزمات.
يرمي استهداف قيمة الصبر إلى دعوة الناس للإنجرار نحو أعمال غير مشروعة تؤدي بهم إلى التقاتل والفوضى، وما ينتج عنهما على المدى البعيد من فقدان للسيطرة، وتدمير ما تبقى من كيان الدولة حتى يتسنّى للطامعين الانقضاض عليها والسيطرة بشكل كلّي دون مقاومة شعبية واعية ومُدركة لمخاطر الفوضى والعبث بالسلم الأهلي، وبالتالي تهدف القوى المعادية إلى جعل مجتمع المقاومة “آلات” خاوية مُفرغة من أي مضمون يُدرك الحكمة والصبر، حتى يصبح المجتمع أداةً مطواعةً في خدمة المشروع التدميري الذي يتربّص ببلدنا.
ومن المعلوم أن الصبر الحكيم (الناتج عن الحكمة) يقف عثرة في مسالك تحقيق أهداف المشاريع العبثيّة، وهي (تلك المشاريع) التي تسعى إليها قوى المحور المعادي التي تسعى إلى اصطياد رأس المقاومة عبر تدمير مضمونها الاجتماعي. هم لا يريدون قوى مجتمعيّة واعية ولا رؤيويّة، إنما يريدون جهلة يسهل التحكُّم بهم، وهو ما ينطبق على شريحة كبيرة من الشباب التي التحقت بركب المجموعات المدنية المدعومة من السفارات الغربية وبعض الدول العربية، وهم بذلك ليسوا إلا أداةً خاوية في المشروع الغربي (وبعض العربي) التخريبي.
التكافل الاجتماعي
يتميّز الشباب اللبناني بالـ “حشكة”، أو المبادرة إلى مساعدة الآخرين عندما يقعون في محنة. وبُعَيد الانهيار المالي وبداية الأزمة الراهنة، كان لا مفرّ من التكافل والتضامن الاجتماعي والتكاتف ريثما يتم تخطّي الأزمة. وقد كانت المقاومة كما عادتها إلى جانب شعبها ومجتمعها، وكانت ترفدهم بأدوات الصمود التي تُعيلهم وتعينهم على تحمّل الأزمة القائمة وتبعاتها.
وطالما أن عنصر الأزمة الخارجي، وهو الجزء الأكبر حاليًا، يسعى إلى استغلال الوضع القائم في حربه ضد المقاومة ومجتمعها، ويسعى جاهدًا، مستغلًّا عَوَز الناس، إلى إخضاعهم ودفعهم إلى التخلّي عن خيار المقاومة والتزام خيار الرضوخ والاستسلام، فإن صمود الناس يُفشل طموحه، وأصبح خيار التكافل الاجتماعي شوكةً في حَلق المعنيّين عن خنق مجتمع المقاومة واستدراجهم نحو الانتفاضة على مقاومتهم بعد إقناعهم أن خيار المقاومة هو سبب الأزمة وأن التخلّي عن هذا الخيار بديله الرفاه والاستقرار.
الخلاصة
بناءً على ما تقدّم، فإن القيَم المجتمعيّة تشكل هويّة المجتمع وأحد أبرز عناصر قوّته وبقائه ودَيمومة أثره. ولذلك، وبعد استنفاد كافة الوسائل في وجه حركات المقاومة وعلى رأسها حزب الله، تبدّل المشهد الخشن الظاهري، وأصبح خشنًا متواريًا، يمسّ أمن المجتمعات القيَمي والعقائدي والمبدئي. ولذلك نرى هذا الاستشراس في استهداف بيئة المقاومة اللبنانية والتدافع نحو تشويه مبادئها وشَيطنة منظومتها القيَميّة.
في معركة القيَم، علينا أن نعلم أن هويّتنا هي سر بقائنا ككَيان حَيّ، ولا قيمة للمجتمع الخالي من مضامين قيَمِه ومبادئه، وأن نعلم، أيضًا، أن القيَم والمبادئ هي التي تشكّل الحافز في تحقيق الأهداف الإنسانية لحياة الفرد الفاعل في مجتمعه.
ألم يتعلّم أعدائنا بعد، أنّنا دعاة حياة لا خضوع؟ ألم يتعلّموا أننا أصحاب فكرة المواجهة والصمود لا الخنوع والاستسلام؟
حسنًا.. سنَنتصر أيضًا في هذه المعركة.
*ناشط لبناني