يربط لبنان وسورية علاقات تاريخية وطيدة تمتد لعقود طويلة خلت، أولًا بحكم الجغرافيا التي تجعل من البلدين بقعة جغرافية وديموغرافية متداخلة لا يمكن لأي مؤثر سياسي أو عسكري التأثير فيها أو تغييرها.
ولعل ما مرت به العلاقات اللبنانية السورية منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 يعد التطور التاريخي الأبرز في علاقة البلدين الشقيقين خلال السنوات الماضية.
منذ الاستقلال اختار كل من لبنان وسورية مسارين مختلفين على الصعيد السياسي، الاقتصادي والاجتماعي. لكن البلدين بقيا على ارتباط وثيق رغم كل المراحل الحساسة التي تمر بها المنطقة والعالم، كيف ذلك؟
اقتصاديًا، الازمة الاقتصادية والمالية في لبنان والتي تفجرت بعد أحداث 17 من شهر تشرين من العام 2019 وما لحقها من انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية تزامنت مع انهيار مماثل لسعر صرف الليرة السورية بفعل فرض الحظر الأميركي وقانون قيصر الذي تسعى من خلاله الولايات المتحدة الأميركية الى حصار الشعب السوري والضغط على الدولة والمؤسسات الرسمية. وهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الانهيار المتوازي، فقد جرى الأمر ذاته عام 1986 بُعَيد الانهيار الكبير لأسعار النفط وخلال الحرب الأهلية اللبنانية بينما كانت سورية تعيش في ظل عقوبات اقتصادية غربية.
مسار البلدين الشقيقين اختلف في الخروج من تلك الأزمة السابقة، لكن المسارين أسسا بالتوازى للإشكاليات التي تعرضا لها لاحقًا.
لبنان بقي ملجأ لمدخرات السوريين وتمويلات تجارة القطاع الخاص الدولية، في حين بقي لمرفأ بيروت دور أساسي في الاقتصاد السوري وذلك قبل الانفجار الكبير الذي وقع عام 2020 ودمر الجزء الأكبر من المرفأ وعطل عمله بشكل جزئي. الأمر الذي أثر سلبًا على القطاعين التجاري والمالي في لبنان وكذلك على الرساميل السورية التي جمدتها المصارف اللبنانية بعد دخول الأزمة مسارات صعبة وقاسية.
سياسيًا، فإن البلدين وصلا إلى صيغتي حكمٍ متشابهتين نسبيًا، الفارق أن السلطة في سورية تتركز في شخصٍ الرئيس بشكل أساسي كقوة إجرائية اضافة الى مجلسي الشعب والوزراء، في حين تتوزع في لبنان على الرئاسات الثلاث وفق صيغة عرفت لاحقًا باتفاق الطائف الذي أعاد تقسيم النفوذ وفق صيغة المحاصصة الطائفية.
اجتماعيًا، فإن البلدين الشقيقين تربطهما علاقات وزيجات مؤثرة لم تتمكن سنوات الحرب الطويلة في سورية من القضاء عليها أو التأثير البنيوي بها رغم الموقف الرسمي اللبناني من سورية واغلاق الحدود والقطيعة السياسية. كما أضاف مشهد النازحين السوريين بمئات الآلاف شكلًا جديدًا من أشكال التداخل الاجتماعي والديموغرافي بين البلدين، وذلك بمعزل عن أسباب عدم السماح بعودتهم الى ديارهم وارتباط القرار السياسي اللبناني بالرغبات والإملاءات الأميركية في هذا الملف.
سنوات الحرب في سورية اضافةً الى ما يشهده لبنان اليوم من حالة غير مسبوقة على الصعيد الاجتماعي والمالي والمعيشي تؤكد حاجة لبنان أولًا لسورية كمنفذ بري وحيد يفتح أمامه طريقًا تجاريًا أساسيًا نحو العالم العربي ودول آسيا، وهو ما يفتقده اليوم لبنان كونه بأمس الحاجة للحصول على العملة الصعبة من خلال عمليات التصدير، اضافة الى اعتبار سورية ممرًا الزاميًا للتجارة اللبنانية برًا مع وجود كيان الاحتلال في فلسطين المحتلة، ما يجعل لبنان اليوم في حالة خنق ذاتي اقتصاديًا وتجاريًا مع بقاء العلاقات الرسمية بين البلدين في حالة من المراوحة مع وقف التنفيذ.
رغم ذلك كله لم تنفع محاولات الفصل بين لبنان وسورية، حتى الولايات المتحدة التي كان لها الدور الأول في اغلاق الحدود وقطع العلاقات السياسية بين البلدين فضلًا عن تطبيق قانون قيصر الذي يضيق الخناق، ارسلت في الاشهر الاخيرة رسائل عدة اتجاه لبنان وسورية وبعض دول الخليج تعتبر تراجعًا كبيرًا حيال حصار سورية وبالتالي لبنان المتأثر الأول.
بالمحصلة أثبتت التجارب كافة والتاريخ أن امكانية عزل لبنان عن سورية أمر يستحيل تطبيقه، وتبعات ذلك تنعكس سلبًا على لبنان في شتى المجالات، خصوصًا مع استمرار وجود كيان الاحتلال على ارض فلسطين ما يجعل من سورية الممر الوحيد برًا للبنان نحو الشرق، والذي يصبح خيارًا ملزمًا تبعًا للتطورات التي تشهدها الساحة الاقليمية والدولية. فهل نشهد عودة قريبة للبنان الى مكانه الطبيعي الى جانب سورية اقتصاديًا وسياسيًا؟