حقائق التاريخ والجغرافيا أقوى من أميركا

د. محمد كمال الجفا – خاص الناشر

عشر سنوات عجاف مرت، وانطوت العشرية السوداء الأولى من الحرب على سورية، وانطوت معها عشر سنوات من القطيعة الرسمية شبه العلنية ما بين لبنان الرسمي وسورية الدولة والحكومة والمؤسسات. لكن لم تكن خيار لبنان كاملًا بل هو خيار لتيار لبناني قاد عشرات سنين من القطيعة مع سورية منذ العام ٢٠٠٥ لم تستطع فيها كل الحكومات اللبنانية المتعاقبة كسر هيمنة وسيطرة هذا التيار على كل الحكومات التي تم تشكيلها منذ اغتيال الحريري وما تبعه من حرب تجيبش شامله ضد سورية وجيشها وسياساتها وقيادتها وعلى رأسها الرئيس بشار الأسد.

لكن بعد توضح معالم الانتصار السوري وثبات مواقف حلفائ سورية في حربها الشرسة والتي مثلها رأس حالتها حزب الله توجت باعادة انتخاب الرئيس الأسد وبرضا دولي شبه كامل، وبعد الضغوطات المالية والاقتصادية والسياسية التي بدأ لبنان يئن تحت وطأتها متجاوزًا في فترة زمنية قصيرة كل الانهيار الاقتصادي الذي تعرضت له سورية خلال عشر سنوات بدأت القيادات اللبنانية تتلمس طريق التواصل والتنسيق والتخطيط مع دمشق العاصمة التي حاربها كثير من اللبنانيين.

الحرب الاقتصاديه القاسية التي يتعرض لها لبنان بكل طوائفه ومكوناته والتحول الكبير في علاقات لبنان مع محيطه العربي وانكفاء كثير من الدول العربية عن تقديم الدعم اللامحدود لبعض مكونات الطبقة السياسية اللبنانية وخاصة مواقف السعودية وبعض دول الخليج من لبنان الرسمي أعاد الرشد والعقلانية لبعض سياسيي لبنان من الصقور الذين حملوا شعار الحرب والقطيعة ضد سورية.

تأثر الجميع وبلا استثناء في لبنان بسياسات الولايات المتحدة ودول الخليج وأصبح معظم اللبنانيين يئنون تحت وطأة أوضاع اقتصادية قاسية جدًّا نتيجة قرارات أميركية جائرة ضاغطة قاسية على لبنان تفوق قدرته على التحمل، بالإضافة إلى الأزمات المتلاحقة في قضية الطاقة وتوقف إمدادات الغاز والنفط وتوقف محطات التوليد الكهربائية، ما وضع الجميع وبلا استثناء أمام مرحلة تاريخية ومفصلية وهي أن لبنان قادم على الانهيار بالكامل.

لا أحد يريد للبنان أن ينهار وأن يدخل مرحلة الفوضى لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها كلها وأولها وجود المقاومة وقدرتها على ملء الفراغ الأقتصادي والمالي وبالتالي السيطرة السياسية الكاملة على لبنان والذي عجزوا عن تغيير توجهاته وسياساته خلال السنوات العشرين الأخيرة.

وبالتالي كلمة السر وصلت من واشنطن وهي إنهاء القطيعة مع دمشق وإعطاء الضوء الأخضر للحكومة اللبنانية لبدء مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، وسُمح له بالتواصل مع سورية لتكون معبرًا للغاز المصري وللكهرباء الأردنية المستجرّة الى لبنان، فأرسل للمرة الأولى منذ عشر سنين وفدًا وزاريًا الى دمشق طلبًا لموافقتها أو قبولها بعمليات المرور والاستجرار تلك.

لقد تمّ التواصل مع سورية تحت ضغوطات اقتصادية ومعيشية فرزتها الحاجة اللبنانية الملحة لإبقاء لبنان الدولة ممسكًا بمهامه الخدمية الملحة والضاغطة وخاصة بعد اتخاذ السيد حسن نصر الله قراره ببدء استجرار النفط الإيراني إلى لبنان .

الضوء الأخضر الأميركي أصاب أعداء سورية من دعاة العزلة والتطويق وأصحاب سياسة «النأي بالنفس» بالصدمة والانكفاء وأنهت شعاراتها الى الابد.

أكدت الأزمة المالية والخدمية التي مر بها لبنان أنّ عامل الجغرافيا هو عامل حاسم في رسم سياسات الدول والكيانات السياسية وفشلت عداوات عقدين من الزمن وأسقطت شعارات تغنى بها هؤلاء ولعبوا بعواطف اللبنانين وأعادت البوصلة من جديد إلى صفحة جديدة بين البلدين وأن كانت خجولة لكن لا بد منها لدعاة القطيعة والحرب مع سورية.

لقد وصل الجميع إلى قناعة تامة وهي استحالة عزل لبنان عن سورية أو فرض قطيعة لبنان عن سورية مهما كانت الدوافع والنوازع والأهداف.

وهنا لا بد لنا من العودة إلى ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني التي أقرّت في مؤتمر الطائف في العام ١٩٨٩:
«إنّ لبنان وطن نهائي لكلّ أبنائه… تربطه علاقات مميّزة مع سورية»، في نص وسطي اقرنت فيه «نهائية الكيان اللبناني» بـ «تمايز العلاقات مع سورية»، ما شكل ترضية وعلاجًا لهواجس أكثر من جهة.

لقد ترجمت هذه الثنائية بعد العام ١٩٨٩ في صياغة علاقات لبنان وسورية لجهة تنظيم المعاهدات والاتفاقات التي كان أهمّها «معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق» بين البلدين وإقامة المجالس والهيئات واللجان المشتركة والتي كان أرفعها «المجلس الأعلى السوري اللبناني».

سنوات العشرية السوداء سيطر فيها التيار المعادي لسورية على كل مقومات السياسة اللبنانية باتجاهها واستطاعوا حصارها وتجويعها وحتى إيلامها في كثير من المواقع ودعم المجموعات المسلحة وتمويلها وتأمين بيئة حاضنة لها ومعادية حتى بين اللاجئين السوريين وتبعتها مصادرة الأموال السورية الخاصة المودعة في البنوك اللبنانية وهي ليست أموالًا حكومية وما تبعها من مهاجمة البضائع السورية الواردة عن طريق الموانئ اللبنانية وبعدها جاء تفجير ميناء بيروت والذي كان جزءًا من الحرب الاقتصادية على سورية وعلى حلفاء لبنان لإخضاعهم سياسيًّا ليكونوا واجهة الصراع والمتابعة مع حزب الله الذي خرج اقوى بعشرات المرات بعد الحرب في سورية ومشاركته الفعالة في معظم معاركها.

التيارات اللبنانية الثلاثة الأول المعادي لسورية والثاني الذي اتخذ سياسة النأي بالنفس والثالث الحليف لسورية أصبحوا اليوم ربما وتحت وطأة الضغوطات والحصار على لبنان في موقف واحد ربما وتقارب وأجبروا عل عقد زواج مصلحي لتأمين الحد الأدنى من الموارد والخدمات والإمدادات إلى لبنان وخصوصا توافقهم على إمدادات الكهرباء والغاز عبر سورية والربط مع الأردن ومصر وما سيتبعه من انفراجات على جبهات وملفات أخرى بين البلدين.

الأثمان التي دفعها الشعبان الشقيقان غالية جدًّا لكن نتائج هذا الصمود يثبت صوابية القرار الذي اتخذته القوى الحليفة لسورية وعلى رأسها حزب الله والحلف الاستراتيجي الذي رسخه الرئيس الأسد والسيد حسن مع المرشد الأعلى وقيادة الخط المقاوم في إيران أنتجت هذا الانفراج التدريجي في العلاقات التاريخية المتميزة بين البلدين وبدأت بإعادتها إلى مسارها الطبيعي.

اليوم نحن أمام مرحلة تاريخية جديدة توحي بقرب قطف ثمار الانتصار والصمود والتلاحم بين البلدين وإنتاج تحالفات سياسية جديدة ستتوضح أوزانها وقوتها بعد الانتخابات اللبنانية وخاصة بعد انسحاب تيار المستقبل ورئيسه سعد الحريري من الحياة السياسية اللبنانية والذي شكل رأس الحربة السنية في الحرب على سورية وجمع حوله تحالفًا درزيًا مسيحيًا منحه بعض الشرعية داخل وخارج لبنان ومكنه من كسب دعم مالي وسياسي عربي ودولي في مرحلة كانت هذه الدول في أوج الحرب مع الرئيس والدولة السوريين.

الرئيس الراحل حافظ الأسد قال وبكلمات صريحة لا يُمكن لأي محاولات أميركية، وأيّ قوانين حصار جائرة، أن تقطع الطرق بين دمشق وبيروت وبالعكس، وإن شهدت هذه العلاقة فتورًا سياسيًا جراء تحاذبات سياسية لبنانية، لكن الحقائق التاريخية والجغرافية لا تُمحى بمحاولات أميركية بائسة ويائسة، وإن فسدت السياسية، فإن الاقتصاد يبقى حاضرًا وبقوة بين البلدين، الأمر الذي من شأنه إعادة الحياة للسياسة بين البلدين.

من المهم أيضًا أن نذكر ما قالته إليزابيث بيكارد، مديرة مركز الدراسات العربية والإسلامية في باريس: “منذ أن برز لبنان وسورية كدولتين مستقلّـتين، كان واضحًا أن الاقتصاد الذي وحّـد بينهما لقُـرون طويلة، ستكون له اليد العُـليا في كل التطورات بينهما، وأن الاعتماد المتبادل بينهما، المستند إلى الاستمرارية الجغرافية والاقتصادات الحديثة، سيستمر بشكل حثيث”.

دمشق وبيروت عنوان لا يُمكن كسره، وعمق الروابط بين البلدين، سيبقى حاضرًا عند أي استحقاق بمعناه الجيو استراتيجي. وهنا نقول إن هذه الزيارة وبعناوينها، ما هي إلا تمريس حقيقي وواقعي، للعلاقات العميقة بين البلدين، كما أن سورية ولبنان هما نواة لأمة واحدة، وتكتل سياسي واقتصادي واحد، ولا نبالغ إن قلنا، أنه من الضروري أن تُلغى الحدود تمامًا بين سورية ولبنان، وأن تُغلق السفارات، وأن تندمج الاقتصادات بين جغرافيتهما، بدل أن يذهب البعض في لبنان إلى التسول من واشنطن وبعض دول الخليج لأبناء لبنان واجهة صراع مفتوح مع سورية.

نحن أمام عتبة جديدة ومرحلة جديدة وأمل جديد في إعادة اللحمة والتواصل بين الشعبين الشقيقين بكل مكوناتهما، وأن يعاد فتح الحدود كاملة بين البلدين وأن تعاد المرحلة التاريخية من العلاقات الأخوية بين البلدين وأن يكون للشركات اللبنانية دور مستقبلي في إعادة الإعمار وأن يكون الأشقاء اللبنانيون في مقدمة المشاركين في مرحلة إعادة الإعمار.

صمود وصبر وتضحيات لا بد أن تزهر محبة وعلاقات وتعاونًا بين البلدين الشقيقين المرتبطين عضويًا وجغرافيا وعائليًا إلى يوم الدين.

*باحث سياسي وعسكري سوري

اساسيسوريالبنان