النّأيُ عن النّفْس

أثبتت أحداث الحقية الأخيرة من تاريخ العلاقات اللبنانية – السورية، وما تخلّلته من تشعّبات وتدخّلات، أن النأي بالنفس عن سورية، إنما هو في الواقع نأي عن كل ما يتعلّق بمصالح لبنان السياسية والاقتصادية والأمنية وحتى الاجتماعية.

صحيح أن تاريخ هذه العلاقت، منذ سايكس – بيكو حتى اليوم، أثبت مرارًا وتكرارًا الحاجة اللبنانية الملحّة لسورية، كعمق استراتيجي وملجأ آمن وخيار رابح، إلا أن ما أعقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري من تغيّرات على الساحة اللبنانية، وتصوير الغرب لها على أنها انزياح لبناني صوب السيادة والاستقلال، عَكَست في حقيقتها سياسة غربية لسحب لبنان من عمقه العربي الطبيعي، ووضعه في قلب المخطط التآمري الموجّه ضد سورية ومِن خلفها كل ما يمتّ لمشروع مقاومة الاحتلال، وتاليًا التطبيع، بصِلة.

اليوم، يعيش لبنان حالة انهيار شبه شامل في جميع مناحي الحياة، أثّرت على صورة الدولة البهية التي حاول الغرب رسمها في مخيلة «السياديين»، ودفعتهم بموجبها إلى إشهار العداء لسورية ومشروعها العربي الحقيقي. الصدمة التي نعيشها في لبنان اليوم، تجعل من الصعب على أتباع السفارات عدم إنكار حقيقة أن مشروعهم أوصل البلد إلى ما أوصله من انهيار ودمار، قضى حتى على صورة البلد المتحضّر «اللي بيحكي فرنساوي»، إلى درجة لم تعد تنفع معها كل مساحيق التجميل الإعلامية الغربية، وإلى درجة دفعت لبنان الرسمي إلى طرق أبواب دمشق مرة أخرى لإنقاذه من أزمة تأمين الطاقة للاستهلاك المحلي، فوافقت الحكومة السورية، رغم كل العداء اللبناني تجاهها، وعرقلت الإدارة الأميركية رغم كل التملّق اللبناني نحوَها.

احتاج اللبنانيون إلى فترة طويلة -منذ مؤتمر سان ريمو في نيسان 1920، حتى مؤتمر الطائف في أيلول 1989، مع كل ما ملأ صفحات هذا التاريخ من أحداث ومتغيّرات- ليقرّوا بأن لبنان يحتاج إلى علاقات مميّزة مع سورية، فدوّنوا ذلك في «وثيقة الوفاق الوطني».

وعلى عتبة تطوّرات إقليمية ودولية كبرى، ساهم فيها الانتصار السوري في الحرب الكبرى التي خيضت ضدّ مشروع سورية العربي، وتساهم فيها أيضًا المواجهة الروسية للسياسات الأميركية التوسّعية، عبر أدواتها الكثيرة ومنها «الـناتو» وأوكرانيا زلينسكي، وقبلهما رسمتها المقاومة عندما كسرت قوة الردع الإسرائيلية مرارًا وكرارًا في لبنان وفلسطين، هناك فرصة متاحة للبنانيين بمختلف انتماءاتهم، للإدراك مرة أخرى أن العلاقة مع سورية مكسب للبنان، إنْ فقدَه خسِر، ولم تخسر سورية. وعليه، فإن الدعوة تبقى مفتوحة وملحّة لإعادة وصل ما انقطع، حفظًا للمصلحة اللبنانية أولًا، ونحن نرى التخلّي الأميركي اليومي عن الأدوات منذ فييتنام حتى أوكرانيا، وثانيًا لتمتين العلاقة اللبنانية – السورية بنصوص أكثر وضوحًا وصراحة وحزمًا، كي لا تتكرّر محاولات سلخ لبنان عن نفسه مرة أخرى.

اساسيسورياسوريةلبنان