أشفقت على ذاك التافه الذي خرب أمس صورة أهم حدث ثقافي لبناني وعربي منذ العام 1953 ، حيث اندفع بعقله المحشو تبنًا ليفرغ شحنات جهله أو تجهيله على صورة رجل حرم النوم والراحة ووضع نفسه وروحه في فم التنين في تموز وآب 2006 ثم عاد وكرر ذلك بين عامي 2014 و2017 عندما اندفعت جحافل التوحش لتحاول الفتك برأس بعلبك والقاع وغيرهما من القرى الحدودية اللبنانية الشمالية التي كان قد حماها عام 1976 الامام المغيب السيد موسى الصدر اعاده الله بعمامته وردائه المقدسين.
لن أخوض في ما حصل أمس في جناح دار المودة في معرض الكتاب لإشفاقي على تافه من لبنان حاول عمل عراضة كانت ستودي بروحه لا سمح الله لولا حكمة العقلاء الذين أبعدوا كفوف وسحاسيح ولكمات وكراسي المستفَزين من هذا الفعل الناقص الذي يمكن إضافته إلى عناصر تحليل ظاهرة اندفاع سفهاء هذا البلد بكل الطرق والوسائل المناسبة لجر حكمائه إلى حرب أهلية لن تمر مرور الكرام هذه المرة بل سترمي من أشعلها في البحر وستجعل لبنان بلون واحد غالب فيما المغلوبون سيحرمون من هذا البلد الطيب والعزيز المسيج بدماء الشهداء وعرق ودموع الآباء والاجداد والاسلاف.
وعليه سأبدأ من زاوية بعيدة ولكنها تتصل بعمق الحدث الرمزي الذي حدث اليوم في البيال.
بعيدًا عن نظرية المؤامرة وخطط المنظمات السرية والتحت أرضية تختصر عدة كتب ودراسات ومراجع أساسية في فنون السيطرة والتحكم بالوعي في الزمن المعاصر احتلال عقل بلد ما أو مجتمع ما بالسيطرة على أربع مَرافق ثقافية أساسية تسهم في بناء الوعي فيه وتعتبر أساسًا مداميك لبناء الحضارات والهويات الوطنية المعاصرة وهي:
1- القطاع الأصفر أو قطاع الاعلام والذي يشمل وسائط الاعلام التقليدي والجديد كالتلفزيون والصحف والاذاعات ووكالات الاخبار والمواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي.
2- القطاع الأبيض أو قطاع التربية والتعليم والذي يشمل المدارس والثانويات والجامعات والمعاهد المهنية والمتخصصة والتعليم عن بعد وخلافه.
3- القطاع المخملي الزهري أو منظمات المجتمع المدني والذي يضم المؤسسات والمجموعات غير الحكومية والنشطاء في مجال السياسة والبيئة والعمل الخيري وحقوق الانسان والحيوان ومجالات كثيرة أخرى لا مجال لذكرها في هذه العجالة.
4- القطاع الاحمر وهو قطاع الترفيه والفنون أي المجال الذي تتكاثر فيه “الكائنات” العاملة والمهتمة في مجالات (السينما – التلفزيون – المسرح – قطاع الغناء والرقص والهشتك بشتك – الرياضة – وغيرها).
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية يتلذذ الاميركيون ومن يتبعهم بإدارة وتوجيه هذا الهجين الذي يتمظهر في أشكال مختلفة ويستخدم كله أو أجزاء منه تبعًا لطبيعة الخصم ومناعته الثقافية والاخلاقية وتمسكه بهويته وتراثه وعاداته وتقاليده الحميدة. ومن خلال خطط اختراق وسيطرة طويلة الامد يجري التحكم بالشعوب عبر القبض على القطاعات الاربعة السالفة الذكر وتحويل المجتمعات إلى قنابل حضارية.
وبتطبيق هذا النموذج على المجتمعات الشرقية نجد أن أكثر من تتأثر به هي الحالة اللبنانية العجيبة الغريبة حيث إن المجتمع اللبناني مجتمع منفتح على الثقافات الغربية والمشرقية وفيه من الحرية السياسية والدينية والاعتقادية ما يجعل هذا الانفتاح مدمرًا لأسباب عديدة سأذكر منها ثلاثة أسباب منعًا للإطالة:
- طبيعة البيئة اللبنانية التي تعيش في أزمات متلاحقة يتداخل فيها الامني بالاقتصادي بالثقافي بالتأثير الأجنبي مما يجعل اللبناني “المنفتح” أساسًا ينشد الدواء دائمًا من الخارج. وطالما أن “الفرنجي برنجي” فلن يقبل اللبناني بالصلحة مع شريكه الآخر بالوطن والهوية إلا إذا مد الفرنجي يد الغريمَين اللبنانيين ليجري المصالحة بينهما.
- شيوع الثقافة الالتقاطية بفعل ضعف وتقادم معظم النظام التعليمي والجامعي وتأثر السمين بالغث مما أذهب الصالح بعقب الطالح وساهم مرة أخرى باستشراء حمى الدراسة لدى “الفرنجي” في الداخل أو في الخارج، فلا فرق عند المعتقدين بالـ ” فرنكوفونية أو الانكلوسكسونية” في أن يدققوا بنوعية وكمية المادة، المهم عندهم هو الـ”brand” الذي يسِم هذا المشحر وذاك المعثر بحائز على شهادة من جامعة أجنبية. أنوه هنا أنني لا أعمم، فكثير من اللبنانيين أصحاب العقول النيرة عرفوا ما يريدون من الخارج ووصلوا إلى مجالات حطموا فيها أرقامًا قياسية في العلم والمعرفة والابتكار، ومنهم الشهيد العبقري العاملي حسن كامل الصباح صاحب عبارة “إن العلم إذا عب عبًّا قرب من الله وإذا رشف رشفًا أبعد عنه”، ومنهم أيضًا ابن بلدتي الشهيد رمال رمال الذي طور نظرية متقدمة في الرياضيات تسرع تخصيب البلوتونيوم 5 أضعاف بكلفة زهيدة، والاثنان قتلا لأن المطلوب أن يبقى اللبناني النافع والعالم في الخارج عند الفرنجي الذي لن يسمح إلا بعودة الكادرات الفاشلة أو تلك التي لا تفيد الوطن بسبب عدم وجود أرضية بحثية وعلمية لائقة لاستقطابها أو بأن تلك “الكادرات” (بين هلالين) التي تعاد إلى الوطن بتبعية كاملة للفرنجي كأدوات دمار تستخدم عادة لتلويث المجتمع بأفكار وقيم لا تتلاءم مع ما يحتاجه هذا المجتمع من متطلبات محددة تتواءم مع خصوصيته.
- الطائفية المقنعة، وهي مرض هذا الكيان، وفي نفس الوقت ديدنه الذي بات يهوي به إلى قاع السفالة والابتذال مع ظهور ” إمعات”بعض اليسار التكفيري والـNgos كمحررين للبنانيين كما يدعون من “احزاب الطوائف”، وهم كما تظهر الاحداث يومًا بعد يوم أخس وأخبث طائفة على مساحة هذا الوطن المادية والافتراضية لأنه يوجد تحايل كبير في وصف معتقد هذين الكائنين الهلاميين “بعض اليسار والـ ngos” حيث إن جذور مداركهم المعرفية وطقوسهم العبثية ومسارهم المحتقر لكل ثقافات المجتمع ولغتهم الاستعلائية التي تخرج من عقول مطبقة يعشش فيها الجهل المركب وتفاعلهم الاجتماعي والثقافي والقيمي كل ذلك يعطي تعريفًا لهذه الجماعة التي حزمت فيها جماعات وأحب أن اسميها بالطائفة اللبنانية التاسغة عشرة أو كما كان يقول أبي رحمه الله “جيل بو ضرسين اللي بتحاكيه ما بيسمع وبيروح ما بيرجع وبياكل ما بيشبع”. ولأن الحديث ليس جزافًا فخذ عينات من أذى “شيعة لبنان” من هذا الجيل المتناسل:
1- في عز الحرب الأهلية التي تصدى لمواجهتها الامام المغيب السيد موسى الصدر بعدما أصبحت برعاية بعض اليسار والانعزاليين الكتائب حربًا للقتل والذبح على الهوية، واعتصم الامام في جامع الصفا في رأس النبع عام 1976 لأسابيع معلقًا عمله السياسي من أجل وقف العبث المجنون من كل الاطراف فانبرى كوماندوس التكفير الشيوعي (بعض الحزب ومنظمة العمل) لشيطنة الامام الصدر ومطاردته وحتى لقتله حيث تعرض لعدة محاولات اغتيال والتهمة الدفاع عن “المسيحيين” في القاع والدامور وغيرهما.
2- قبيل اجتياح العام 1982 شنت جحافل بعض اليسار اللبناني غزوة على كل ما يمت للتدين “الشيعي” بصلة وعلى مدى أسابيع أحرقت بيوتًا ومساجد وانتهكت حرمات في الجنوب بجحة محاربة الظلاميين الذين أطلقوا الرصاصات الأولى على المحتل الصهيوني وارتضوا أن يجلسوا في نفس الخندق مع قتّاليهم كرمى لعيون الوطن.
3- عام 1985 ومع الانسحاب الاول شهدت المناطق الاسلامية عمومًا و(الشيعية) خصوصًا معركة شرسة دفاعًا عن العلم اللبناني حيث انبرى المقاومون -الذين تم التعرض لهم على طريق الساحل من بوابة صيدا وحتى الناعمة- للدفاع عن العلم اللبناني، رمز الوطن، الذي كان يحرق على حواجز بعض اليسار (الشيوعي والاشتراكي) وطبعًا كان معظم قرابين الدفاع عن العلم هم من ” الظلاميين الشيعة”.
4- وحتى لا نستغرق كثيرًا في التاريخ البعيد سنقفز دفعة واحدة إلى عام 2018 حيث أطلق “لقطاء بعض اليسار والـ ngos” حملة شعواء على كل رمز يمت لطائفة المقاومة بصلة، بدأت بولاية الفقيه الذي صار بلغتهم “سفيهًا”، ثم تحولت إلى الشعائر وعاشوراء والشهداء والسلاح ثقافة الموت والحجاب والتشادور واللحية ومجتمع وثقافة المقاومة وصولًا إلى أحكام الميراث والطلاق والخمس والتيمم والوضوء وتغسيل الميت. وعندما أتنى زمن السفهاء في 17 تشرين أول 2019 تحولت كل جهالاتهم إلى مادة آسنة غرقت فيها وسائل التواصل التي تحولت في زمن السفهاء إلى حلبة لتنفيس الامراض النفسية والجهل المركب ومنابر للاستعلاء على من تعاملوا معهم تعامل رسول الله مع مشركي مكة عند دخول جيش المسلمين إليها فاتحًا، فخطب فيهم حبيبنا ومرشدنا قائلًا “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
ختامًا، لا يستقيم مجتمع بلا ثقافة وبلا قيم وبلا حضارة فارحموا لبنانكم يا سفهاء من آفات التبعية والتطبيع والانبطاح الثقافي. اإرحموا بلدكم من أمراضكم النفسية والعقلية، فلبنان ليس عصفورية بل جنة عمّدتها وسيجتها دماء الشهداء.