تشكّل وسائل الإعلام اليوم ميدان حرب آخر، فالسلاح وحده لم يعد كافيًا، بل بات مثله كباقي الوسائل الأخرى المُستخدمة في الحرب. واليوم، بات التركيز الأكبر يصبّ في الساحات الأقل كلفة وضررًا من الناحية المادية والبشرية، لكن الأشد فتكًا بعقول المشاهدين والمستمعين والمشاركين من الأجيال الحالية والقادمة. وقد ظهر هذا جليًّا في حرب الروسية الأوكرانية التي لم يتعدّ عمرها العشرة أيام بعد. الولايات المتحدة وأتباعها من غربٍ وعرب اعتادوا على سياسة تحريف الحقائق والأحداث، وتقديمها للناس بما يخدم مصالحهم، وبالتالي عرض جزء واحد من المشهد الذي يفضّلونه، أو اختيار المقتطفات من كلا الطرفين بطريقة تظهر أن حلفاءهم دائمًا على حق.
وبما أن العملية الروسية في أوكرانيا تشكل خطرًا استراتيجيًا على خطط الولايات المتحدة والمعسكر الغربي معها، فلم يتوانَ هذا المحور عن جعل الإعلام الخاص به ضمن الحرب الحاصلة واللّجوء مباشرةً إلى “الحرب الإعلامية” وأدواتها التي تتراوح بين الفبركة والتعتيم. وهنا سنعرض بعضًا من الانتهاكات التي افتعلتها أميركا والغرب للقوانين الدولية الحافظة لحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير.
• مساء الاثنين 28 شباط-فبراير 2022، أعلنت “ميتا” (المعروفة سابقًا باسم فيسبوك) أنها ستقيّد الوصول إلى وكالة الأنباء والإذاعة الروسية “سبوتنيك” وشبكة تلفزيون “روسيا اليوم” في كافة أنحاء أوروبا. فقد قال نيك كليج وهو نائب رئيس الشؤون العالمية والاتصالات في شركة ميتا: “تلقينا طلبات من عدد من الحكومات والاتحاد الأوروبي لاتخاذ مزيد من الخطوات فيما يتعلق بوسائط الإعلام التي تسيطر عليها الدولة الروسية”. ولفت إلى أنه بالنظر إلى الطبيعة الاستثنائية للوضع الحالي، فإننا سنقيد الوصول إلى روسيا اليوم وسبوتنيك في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي في هذا التوقيت، متابعًا أن ميتا ستواصل التنسيق حول هذه القضية مع كافة الحكومات المعنية.
• أعلن “فيسبوك” حظر الكثير من الصفحات التابعة لشخصيات ومؤسسات روسية، إضافة إلى منع وسائل الإعلام الروسية المؤيدة لسياسات الحكومة من الدخول إلى منصاته أو الإعلان أو تحقيق الأرباح، في انحياز صارخ للسياسات الغربية ضد روسيا.
• إغلاق حسابات بعض الصحفيين والإعلاميين العاملين في روسيا من قبل شركة “ميتا” على تطبيقي فيسبوك ومسنجر وحظر لبعض الخدمات وحجب للصفحات أو إضعاف قدرة المنشورات على الوصول إلى العدد الأكبر الممكن من المتابعين، خاصّةً بعد إعلان بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا منذ فجر يوم الخميس 24 شباط-فبراير 2022.
• تعليق أستراليا بث قناة روسيا اليوم وحجب مولدوفا لموقع وكالة سبوتنيك الاخبارية اعتبارًا من 26 شباط -فبراير 2022 وبث سبوتنيك الإذاعي في مولدوفا اعتبارًا من 7 آذار-مارس، وإعلان مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الأمن والخارجية جوزيب بوريل أن وزراء خارجية دول الاتحاد وافقوا على حظر قناة “روسيا اليوم RT”.
إن القوانين الدولية التي من المفروض أن يرعاها هؤلاء ترفض هذه الانتهاكات وفقًا لما صدر من الأمم المتحدة عبر آلياتها المعنية من صكوك وقرارات وتوصيات وملاحظات تتعلق بتعزيز وحماية حرية الصحافة. وحري بنا أن نطّلع عليها ونفهم مغزاها، لأنها تشكل في حاضرنا الهوية القانونية والقضائية التي تحمي حقوق البعض عندما تنتهك ويطالبون بالإنصاف، ومن أبرزها على سبيل المثال، نجد:
- المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، التي تناولت حرية الرأي والتعبير: “لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود”.
- المادة 19 العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وتناولت حرية الرأي والتعبير أيضًا: “لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود”.
أما بالنسبة للقرارات، فسنسلّط الضوء على نماذج مقتضبة منها لعدم القدرة على عرضها كلها هنا:
- القرار رقم 59 لسنة 1946، الذي يعلن “أن حرية تداول المعلومات حق من حقوق الإنسان الأساسية، وهي المعيار الذي تقاس به جميع الحريات التي تكرس الأمم المتحدة جهودها لها، وإن أحد العناصر التي لا غني عنها في حرية الإعلام هو توافر الإرادة والقدرة على عدم إساءة استعمالها”.
- القرار رقم 110 لسنة 1947، والذي يدين “الدعاية التي تستهدف إثارة أو تشجيع، أو يحتمل أن تثير أو تشجع، أي تهديد للسلم أو خرق للسلم أو أي عمل من أعمال العدوان”.
- القرار الذي اعتمده مؤتمرها العام المنعقد في سنة 1970 حول “إسهام وسائل إعلام الجماهير في تعزيز التفاهم والتعاون على الصعيد الدولي، خدمة للسلام ولرفاهية البشر، وفي مناهضة الدعاية المؤيدة للحرب والعنصرية والفصل العنصري والكراهية بين الأمم.. “.
- إعلان الأمم المتحدة الصادر عن مؤتمرها العام، المنعقد سنة 1978، بشأن “المبادئ الأساسية الخاصة بإسهام وسائل الإعلام في دعم السلام والتفاهم الدولي، وتعزيز حقوق الإنسان، ومكافحة العنصرية والفصل العنصري والتحريض على الحرب”.
إن الأبرياء في الحرب، كما في كل أزمة، هم الضحية دائمًا. ما من شعب فوق الأرض يبغي شنّ الحرب والقتال والموت في سبيل رؤساء الدول، لكن سير الأمور في العالم وتركيبته السابقة والحالية التي تقوم على سيطرة القوي وصاحب الأموال الطائلة، جعلت عددًا قليلًا من الأشخاص بموقع السيطرة على العالم والشعوب. على وسائل الإعلام باختلاف توجهاتها أن تأخذ هذا بعين الاعتبار وأن تعلم أن دورها الأساس ورسالتها المهنية تقوم على عرض الحقائق وإخبار الناس بما يحدث حولهم كي يتمكنوا من اتخاذ القرارات في مختلف المواضيع سواء السياسية أو الاجتماعية أو غيرها بموضوعية تامّة وفقًا لنظرتهم الخاصة ورؤيتهم للمواضيع وليس وفقًا لآراء المؤسسة الإعلامية أو الصحفيين الذين يتولون الأمر. فاليوم، تسعى معظم القنوات والمحطات الإعلامية للحصول على نسب المشاهدات الأعلى وتحقيق الترندات محليًّا وعالميًا، لكن ما يجب أن تعلمه حقًّا هو انتهاكها بذلك للأخلاقيات الإعلامية وخسارة السمعة المهنية.