نبدأ من الآية القرآنية التي وعد الله بها عباده المستضعفين في الأرض أن يمن عليهم بوراثة الأرض وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنًا “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ”- القصص، الآية 5 .
القيادة والإدارة وفقًا للمفهوم القرآني لا يمكن أن ينقطع عقدها طالما أن المستضعفين مؤمنون بالله وبالقدرة الآلهية في تحقيق كل الأهداف التي لا تخالف مشيئته وطاعته.
لماذا بدأت بهذه الآية في معرض الحديث عن شخصيتين استثنائيتن لهما من الصفات النادرة التي لا يمكن أن تتكرر في أي عصر، وأعني المفكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر، والإمام المغيب السيد موسى الصدر؟ السبب هو في الالتقاء بينهما على وصف المستضعفين والتأسيس لحركة ثورية لهما بهدف الوصول إلى ما وعد الله من نصرة لعباده وتحقيق الارادة في ظل تهميش سياسي واقتصادي واجتماعي.
ومرحلة التأسيس التي بدأها السيد محمد باقر الصدر كان لها منطلقها الاقتصادي كثابت رئيسي من ثوابت النهضة، إضافة إلى الفكر السياسي والتأطير الأيديولوجي المستمد من الإسلام كمنهج حياة ودستور في بناء دولة تجسد كل قيم العدل والمساواة لا تشبه تلك القائمة على تقديم المصلحة العامة على مصلحة الفرد، كما هو قائم في الدول الاشتراكية، ولا العكس في الدول الرأسمالية.
قدم السيد الشهيد نموذجًا مختلفًا عن النظريتين وكان كتابه اقتصادنا ردًا على النظريات الاقتصادية التقليدية التي تركز على المادة فقط، “فللمذهب الاقتصادي في الإسلام صفتان أساسيتان في مختلف خطوطه وتفاصيله وهما الواقعية والأخلاقية، فهو اقتصاد واقعي في غايته لأنه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات التي تنسجم مع واقع الإنسانية، كذلك يضمن تحقيق هذه الغايات ضمانًا واقعيًا ماديًا، ولا يكتفى بضمانات النصح والتوجيه، بل بضمان تشريعي يجعله ضروري التحقيق (الشهيد الصدر، اقتصادنا)”.
والصفة الثانية الصفة الأخلاقية، وهي ما تميز الاقتصاد الإسلامي وفقًا للسيد الشهيد الذي يرى أن الإسلام لا يستمد غاياته من ظروف مادية وشروط طبيعية مستقلة عن الإنسان كما تستوحي الماركسية غاياتها من وضع القوى المنتجة وظروفها، وإنما ينظر إلى تلك الغايات بوصفها معبرة عن قيم عملية ضرورية للتحقيق من ناحية خلقية. ويورد مثالًا قائلًا “فحين يقرر ضمان حياة العامل مثلًا، لا يؤمن بأن هذا الضمان الاجتماعي الذي وضعه نابع من الظروف المادية للإنتاج وإنما يعتبره ممثلًا لقيمة عملية يجب تحقيقها. فالاسلام يهتم بالعامل النفسي من خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق غاياته وأهدافه، لأجل ذلك تدخل الإسلام، وجعل الفرائض المالية التي استهدف منها إيجاد التكافل، عبادات شرعية يجب أن تنبع عن دافع نفسي نيّر يدفع الإنسان إلى المساهمة في تحقيق غايات الاقتصاد الإسلامي”.
كان الشهيد الصدر أول من قدم الطرح الاقتصادي الإسلامي، وكانت له دراسة عن البنوك غير الربوية والتي شكلت القاعدة لقيام البنوك الإسلامية من خلال معالجته للقضايا الحساسة في المعاملات المالية وفقًا للاسلام وقدم حلولًا للاشكاليات الفقهية حول الحلال والحرام في التعامل مع البنوك. هذا الفكر المتقد أراد أن يشعل ثورة تحدث تغييرًا في مجتمع كان الإسلام فيه رديفًا للجهل، تمامًا كما كان حال ايران قبل انتصار الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩، وهو ما كان يطمح إلى تحقيقه في العراق، إلا أن الشهادة كانت أقرب إليه من ذلك، وظلت نداءاته الثلاثة للشعب العراقي وديعة حتى ولو زال حكم صدام حسين الذي أمر باعدام السيد الشهيد.
إلا أن الموروث المتحور لا زال يعبث في عقول العراقيين ولو بطرق مختلفة، الأمر الوحيد الذي خفف العبء عن قلب مفكرنا العظيم هو أنه رأى تحقيقًا لرؤياه السياسية والاقتصادية على يد الإمام الخميني قبل أن يغادر.
أما السيد موسى فقد ترك كذلك إرثًا للأجيال ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وهو المختص بعلوم الاقتصاد، وتشارك مع السيد محمد باقر الصدر رؤاه النابعة من الإسلام والقائمة على العدالة الاجتماعية، كما تشارك معه النسب والقرابة، وتشاركا أيضًا في المرحلة التأسيسية وإن لم تكن تحققت في العراق وفقًا لآمال السيد الصدر.
كانت حركة السيد موسى في لبنان حركة نهضوية من واقع المحرومين المستضعفين إلى واقع الاستخلاف في الأرض والقيام بالدولة ولو كانت مغايرة لفكرة السيد محمد باقر الصدر لأن واقع لبنان يختلف عن إيران أو العراق. وقد نجح السيد الصدر الذي كان يملك الرؤية المتكاملة لبناء الفرد والدولة واستحوذ على قلوب اللبنانيين من كل الطوائف بأخلاقه وثقافته وتواضعه، لتصبح حركة المحرومين التي أسسها شريكة في صنع القراراللبناني، وعمل على خط الدفاع عن الأرض من خلال التأسيس لمقاومة عسكرية ذات طابع شيعي. ولكن على الرغم من ذلك لم يغفل السيد الصدر أهمية العامل الاقتصادي في البناء السليم لأي مجتمع، وقد اعتبر “أن الفرد أمين على ما يملك مسؤول عنه أمام المجتمع، بل أمام الماضي والمستقبل، وهذا التحليل يؤكد أن الفرد لا يحق له أن يحتكر ما عنده” (السيد موسى الصدر، بحث عن العدالة الاجتماعية والاقتصادية).
عندما نقرأ ما ذكرت سابقًا عن مبدأ التكافل عند السيد محمد باقر الصدر وعن العدالة الاجتماعية ورفض الاحتكار عند السيد موسى نستلهم منهما الحلول لأزمتنا الاقتصادية اليوم، وما يعانيه لبنان من حصار اقتصادي مفروض عليه لنفس الأسباب التي غيبت السيد موسى وقتلت السيد الصدر، إضافة إلى الاحتكار والجشع اللذين غيبا كل مساءلة أخلاقية قبل أن تكون قانونية في مجتمع يساعد فيه أبناؤه بشد الخناق على بعضهم بعضًا بدلًا من العمل بمبدأ التكافل والمؤازرة.
لا يمكن أن نحصر هاتين التجربتين لقائدين وسيدين حملا لواء التغيير في أرض قاحلة لتزهر فكرًا نحتاجه اليوم كما كان عند من عاصرهما ومن عرفهما، لا يمكن أن نحصرها أو نختصرها ببضع كلمات عنهما أو اقتباسات لهما، لأن ذلك يقع في خانة الظلم لكل عطائهما وأفكارهما، بل أدعو الأجيال إلى إعادة قراءة نتاجهما الفكري الذي يصلح لكل زمان ومكان، خاصة في وقتنا الحاضر الذي يبدو أنه يؤسس كذلك لشيء قادم استكمالًا لسلسلة المستخلفين في الأرض.