كنه الهندسة الثقافية المقاومة

الشعوب والمجتمعات عبارة عن تكتلات بشرية تتقاسم غائية وجودية واحدة وهي البقاء للرفاه، قد تنجح في تحقيقها وقد تفشل تاركة المجال للنخب والأعيان بالتفرد بها، على أساس أن الفشل الغائي لن يكون إلا جزئيًا.

إلا أن الثقافة دائمًا ما كانت الكاشف الأساسي لمواضع العطب، وتقدم بما هي ثراء حضاري حلولًا إن كلية أو موضعية، لكن واقعًا منذ دخول “التبريرية” عالم البحث وتحولت إلى منهج تحليلي وتفكيكي للظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلا وانقلب العطاء الثقافي إلى أفيون يخدر النضالات والمطالبة بالحقوق بالارتكاز إلى ميتافيزيقا الفكرة والوجود العرضي، لتنويم جنبة “البقاء للرفاه” والتي تسكن كل واحد فينا باعتماد جنبة “البقاء للضرورة”. وواقعًا أي مجتمع يعيش هكذا مد معرفي إلا ويحكم عليه بالتفكك والزوال حتمًا، مما يجعلنا أمام محك، ليس وحسب كشف مغالطات التيار التبريري الذي يقرأ القرارات وينافح عنها دون إلمام بخلفياتها الحقيقية، بل وبناء رؤية مبنائية للأحداث والقرارات المتخذة واستيعاب كيفية التصدي لها.

المثقف لم يكن يومًا مرآة لا للسلطة ولا للمجتمع، وعضويته الذاتية غير حاكية عن عمق هذا الدور. المثقف هو مرآة الحقيقة المتعالية عن التجاذبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث يمعير الفكرة ويحافظ على نقائها وينزلها نقدًا للسلوك والممارسة الاجتماعيين بمختلف تلاوينها، ولهذا اعتبر “كائنًا مقلقًا” للجميع لا يتواءم بالضرورة مع المتعارف عليه، ولا يستكين للقرارات المتخذة كما لو أنها حالة ضرورية يتناسب استيعابها فهذا دور “رجل الدولة”.

ولهذا لا يتسنى الحديث عن هندسة ثقافية تريد أن تكون مقاومة إلا بالترفع عن الاحتكاكات السياسية وتجاوز معضلة “التبريرية ” والتي تعمي أكثر مما تعالج عيانية المسألة، بإعادة ترسيم معالم ” الثقافة الأساس” والتي سوف تكون ليست وحسب مفسرة للواقع الخارجي بل وحاكمة عليه، فالمقاومة صراع وجودي من أجل الاعتراف بالحقانية وليست تدافعًا واقعيًا متلقية لمنطقه.

ومن هنا أصل المشكلة، إذ إن الثقافة المقاومة وخصوصًا في الشأنين السياسي والاقتصادي زاحمت بـ “التبريريين” الأكتاف حتى تجد لنفسها موقعا وتحافظ على هويتها الأساس، كما لو أن لسان حالها “نحن هنا”، والحال أنها يجب أن تتحول إلى آلية قراءة وصناعة قرار مختلفة عن المماحكات المتعارف عليها، معلنة هويتها بكامل التفاصيل في قلب الواقع الخارجي.

وللأسف أن ثمة استمراء في إظهار هذه الهوية تحت لافتة ” السياسة فن الممكن”، والتي تم تداولها لمرات عديدة من داخل الخيمة، والحال أن أول من استعمل هذه العبارة ـ والتي تنم عن خبث سياسي لا يخفى ـ كان هو ليون غامبيتا المحامي والسياسي الفرنسي الجمهوري للتأكيد على نوع من البرغماتية في اتخاذ القرارات السياسية، لكن سرعان ما تم توصيفه هو ومناصروه بـ “الانتهازية السياسية” والتي لم يتنكر لها بل دافع عنها صراحة في مجلس النواب بتاريخ 21 يونيو 1880، لأن العبارة لم تكن حاملة لأي مبدأ سياسي أساسي يمكن اعتماده بقدر ما تحيل على حلبة المفاوضات والتوافقات السياسية متأصلة على صراع القوى السياسية الداخلية.

فالهندسة الثقافية إن لم تعد إلى كنهها ألا وهو “التغيير الجذري” بشكل يسمح بتحقيق “البقاء للرفاه” فإنها سوف تظل مصلًا منومًا ومسليًا إلى حين أول هزة وجودية، تأكل من الرأسمال الرمزي كما الرأسمال المادي.

ولهذا بالذات لا يتسنى البناء على الموجود المعرفي الليبرالي والليبرالي الجديد لترسيم معالم الثقافة المقاومة أو حتى اعتماد الأولى مدخلًا تواصليًا، كما لا يتسنى البناء على الموجود المعرفي الديني العام لأنه حمال أوجه، بل يحتاج الأمر إلى إعادة تجذير الرؤية وفق مدرسة معرفية واحدة تتبدى هويتها الأساس من خلال المشترك الوجودي الإقليمي، وبعدها يتم البناء تواصليًا على الجسم المعرفي المقاوم تأنسنا، وإلا فإن الهوية الأساس سوف تضمحل ضمن جدلية صراعية تقتات على التجاذبات الواقعية.

اساسي