شكّل الثنائي الموسوي مدماك العلاقة بين الثورة في إيران والمقاومة في لبنان، وامتلكا من الصفات ما جعل هذه المفردات تنساب خيطًا بين قامتين لا يمكن الفصل بين سرّ الحب لهما والعطايا الربّانية التي انعكست توفيقًا في العمل وأنتجت ما أراد كل منهما لبلده ولغيره من أهدافٍ سامية لا يمكن للواقعية السياسية أن تجد تفسيرًا لها إلا في قاموس العرفان.
شكّل الإمام روح الله الموسوي الخميني ظاهرة في المجتمع الإيراني كعالم دينٍ ثائر يسعى إلى تغيير بنية نظام سياسي بشكل جذري، يستند إلى إيمان راسخ بالقدرة على تحقيق الأهداف والثقة بالله في التوفيق لذلك في ظروف لا يمكن أن يعتقد من عاشها من الإيرانيين في تلك الفترة بإمكانية التغيير مع نظام قامع الحريات وسلطوي دموي، وفي نظرة مجتمعية عامة لرجل الدين على أنه لا يصلح لقيادة دولة ومكانه يقتصر على الصلوات أو الدعاء.
إلا أن الرجل الساحر للقلوب بكلماته الصادقة الثابتة، واستناداً إلى رؤية مستقبلية شاملة لكل نواحي الحياة مستمدة من الإسلام في تشريعاتها السياسية والاقتصادية والمجتمعية فضلاً عن الدينية ،طرح البديل وأعطى الحلول وحدد المسؤوليات على المجتمع ككل رجاله ونسائه، وترك القيادة للشعب المظلوم والحق في تقرير مصيره.
يقول الإمام الخميني قدس سره “ليهيِّئ الأحبّة الأعزاء أنفسهم لخدمة الإسلام والشعب المحروم، وليشدّوا الأحزمة لخدمة العباد التي تعني خدمة الله”. الهدف إذًا هو خدمة الشعب المحروم، لا الوصول إلى السلطة لتحقيق مكاسب سياسية أو مادية أو لمجرد الحكم كحال معظم الانقلابات أو الحراك الشعبي الذي يستهدف تغيير السلطة السياسية. ويقول أيضًا “لقد وصلنا الآن إلى مرحلة حسّاسة من عهد ثورتنا الإسلامية، إنها مرحلة البناء، مرحلة استفادة الجماهير المحرومة والمظلومة الإيرانية من ثمار ثورتنا، المرحلة التي يجب أن تلمسوا فيها عظمة النظام الإسلامي العادل، المرحلة التي يجب أن تتكاتف فيها الجهود من أجل القضاء على جذور الفقر والاستضعاف… يجب عليكم الان التعاون والتعاضد والتعبئة من أجل الجهاد ضد الفقر والحرمان وتعزموا هممكم وبتأييد الله تعالى على إنقاذ الجماهير المستضعفة”.
الهدف كان تغيير ثقافة مجتمع، بناء الدولة الإسلامية بمعناها القرآني لذلك أطلق على الإمام الخميني اسم محقق حلم الأنبياء، من خلال الدعوة إلى أن تكون هذه دولة المحرومين في الأرض وليس فقط في إيران وهو ما يعلل مايصفه البعض اليوم “بالتدخلات الإيرانية” سواء في غزة أو لبنان أو سوريا أو العراق واليمن وغيرها من الدول المستضعفة التي ينظر إليها الإمام الخامنئي بعين الخميني المؤسس للثورة الأممية وليست الإيرانية فقط.
قد يصح أن نطلق عنوان التدخلات لأي دولة بشؤون دولة أخرى عندما يكون هدف الأولى مصلحة ما أو لزيادة نفوذ يحمل بالتأكيد في طياته هدفًا مستترًا، وهو موجود في العلاقات الدولية ومبرّر تحت أكثر من عنوان حتى ولو كان لا يراعي القانون الدولي، الأمر الذي قد يأجج صراعًا هنا أو حراكًا هناك، لكن الأمر مختلف جذرياً في أساس قيام الجمهورية الإسلامية التي تنظر إلى الشعوب المستضعفة قبل مصالح الدول الكبرى ولا تساوم على مبادئ العدالة والحرية والمقاومة المستمدة من القرآن الكريم في ضرورة نصرة المظلوم على الظالم حتى لو كان الظالم مستبدًا قويًا متحكمًا.
آمن السيّد عباس الموسوي منذ صغره بضرورة قيام دولة للحق تمهد للقيام الكبير الذي بشر به الأنبياء كلهم وأوكلت هذه المهمة للقائم الموعود، وكان يسعى في كل حركة يقوم بها بهدف التمهيد لهذا القيام ولو كان بعيدا جداً، إلا أن العينين الثاقبتين جعلته يراه أمامه وكأنه متحقق، وقد كان الإمام الخميني وانتصار الثورة الإرهاصة الأولى لهذا القيام بعقيدة الموسوي، الذي علم بيقينه أن روح الله هدية السماء للمستضعفين في الأرض والقائد الذي سيرفع ظلمة القهر بنور الدولة الموعودة وكان اللقاء والاتفاق، “اتكلوا على الله فقط” هذه العبارة التي شكلت النواة الأولى لحزب الله كمقاومة وطنية تحمل الإسلام عقيدة وتسعى إلى رفع الظلم عن المقهورين في أرضهم، في ظل تخلي كامل للدولة الضعيفة عن حماية مواطنين لها.
اتكل السيّد عباس على الله وبدأ بالتأسيس مع رفاقه لمقاومة بإمكانيات عسكرية بسيطة، لكن بعقول وقلوب عميقة وبمعنويات عالية جدًا ومنذ البداية حدّد السيّد عباس الأهداف البعيدة لهذه الحركة الإيمانية بالبعد الديني والعقائدي في نصرة كل المستضعفين في الأرض وليس فقط تحرير الأرض اللبنانية. يقول السيّد الشهيد:”أطلقنا عليها اسم الإسلامية، لأن فكرها وروحها هو الإسلام، لكن هي ملك لكل المستضعفين في كل أنحاء العالم؛ ولذلك عندما تستطيع المقاومة الإسلامية أن تصبح بهذة السعة، يصبح واجب كل المستضعفين في العالم أن يتحملوا مسؤولياتهم في المحافظة عليها”.
مَن يقرأ هذه الكلمات يعتقد أن السيّد عباس يتحدّث اليوم عن تلك السعة التي تجازوت حدود لبنان لتقف مع كل مقاوم في وجه كل ظلم في منطقتنا، لكن ذلك السيّد العالِم كان ينطق بهذه الكلمات في الثمانينات عندما كان الاحتلال الصهيوني يطأ أرض بيروت وليس الجنوب فقط، لا نملك التفسير لذلك، كما لا نقدر أن نفسر تفاصيل أخرى سارت مع الإمام الخميني وهي ترسم الخطوات نحو تحقيق الهدف.
لا يمكن أن نفسّر كيف لـ”إسرائيل” هذه أن تكون سقطت عند السيّد عباس، وهي في كامل غطرستها وتحتل الأرض، مع عروج روح أول شهيد من حزب الله، هذا العمق لا يمكن أن يدركه أبناء اليوم، كما لم يدركه أبناء ذاك الجيل وذاك الزمان إلا الثلة القليلة التي تحلقت حول السيد تنهل من روحه وتحلق في سماء الحب وتمشي خلفه بتواضع كمعلمها، يبحث عن الفقراء يجالسهم يسمع همومهم يقول لهم الوصية الأساس هي حفظ المقاومة، ثم يدير بطرفه وهو كعادته مطأطأ الرأس تواضعًا للخالق، يرمق أصحابه ويطلب منهم أن يخدموا الناس بأشفار العيون.
هذا التلاقي في الرأفة والرحمة بين الإمام وابنه وكلاهما من سلالة الأطهار، أثمر نهجًا في الخدمة لا يضجر منها من كان حامل للعشق في قلبه، والصلابة والنظر للمدى البعيد بين الملهم والعاشق أثمرت ثورةً أممية لا تقف عند حدود ولا تبعية.