استطاعت شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي منذ بضعة أسابيع تفكيك نحو 17 خلية تجسس “إسرائيلية” في لبنان. اعتبر العديد من المواطنين أنّ الانهيار الاقتصادي هو أحد العوامل التي دفعت بالأشخاص إلى خيار العمالة بينما اعتبر البعض الآخر أن لا علاقة للأزمة الاقتصادية معتبرين أنّ عزيزَ النفس لن يذهب لهذا الخيار حتى ولو مات من الجوع.
العمالة
العمالة في لبنان ليست أمرًا جديدًا، فقد استثمر العدو الإسرائيلي بالعديد من العملاء اللبنانيين منذ تأسيس الكيان، ولا يزال يسعى لتجنيد المزيد من العملاء يوميًّا، وهو لا يتوانى لحظة عن البحث ودرس التحضير لمعارك وحروب على لبنان. كان من العملاء الغنيّ والفقير والرجل والمرأة والمسلم والمسيحي والضابط والنائب وحتى الرئيس، منهم من وصل حدّ القتال في صفّ جيش العدو ومنهم من لم ينكشف بعد. فالعمالة لم تقتصر يومًا على طبقة اجتماعية ولا طائفة أو منطقة معيّنة.
استطاعت شعبة المعلومات حديثًا تفكيك نحو 17 شبكة تجسّس “إسرائيلية” في لبنان، وهي العملية الأكبر منذ العام 2009. الملفت هذه المرّة هو اعتراف العملاء أنّ دافعهم الأساسي كان ماديًّا، متحجّجين بالوضع الاقتصادي الصعب. هنا لا بدّ من التذكير أنّ فقر الحال ليس مبررًا لهذه الجريمة، كما لا يبرر قتل نفسٍ لنفس الهدف، بل ما سيذكر هو من باب سرد الواقع وماذا يحدث خلف الأبواب المغلقة.
من الأسباب الأخرى التي ذكرها بعض الموقوفين أنهم فعلوا ذلك كرهًا بحزب الله واستعدادهم لفعل أي شيء لإيذائه. هذه ظاهرة اجتماعية بدأت في الأعوام السابقة وما زالت مستمرة، ألا وهي اعتبارُ الصراع صراعًا شخصيًّا بين حزب الله والكيان “الإسرائيلي” فقط، وهذا أمرٌ خطير سببه الأول التربية الوطنية الخاطئة وخطاب الكراهية الذي لم يقصّر فيه كل الأطراف وحتى المناصرين حتى صار البعض يعتبرون حزب الله عدوًا أكبر بل العدو الوحيد. هنا نتكلّم عن أشخاص غرقوا بشدّة في الدعاية الصهيونية التي صوّرت “الإسرائيلي” صديقًا أليفًا وحزب الله الغول الخطير الذي يريد الفتك باللبنانيين وتدمير بلدهم.
نعم، حزب الله هو الوحيد في لبنان الذي يمثّل المقاومة العسكرية حاليًا، ولكن هذا لا يعني أنّ غير المنتسب والخصم وحتى من يكره حزب الله ينبغي أن يكون في صفّ “الإسرائيلي”. يمكنك أن تكره حزب الله لأدائه السياسي والداخلي أو لعدم إيمانك بعقيدته، وقد تكون معارضًا لسياساته الخارجية، ولكن كلّ هذا لا يعطي الحقّ أن تكون ضدّه بموضوع اعتبار الكيان الصهيوني عدوًّا واعتبار قتاله ومقاومته واجبًا، فالعدوّ كما الإرهابي يراك عدوًّا ويريد سلبَك أرضك واحتلالك ونهب ثرواتك، وهو المسؤول عن قتل عشرات الآلاف من أهل بلدِك والبلدان المجاورة، يراك عدوًا فحسب. لا تحبّ حزب الله؟ حسنًا، ولكن لا تنسَ من هو العدو الحقيقي، ولا تنسَ أنّ هؤلاء لبنانيون يجمعك بهم علاقات تاريخية وهويّة وطنية وجغرافيا ومصلحة وطنية، وهم كما أنت أصحاب أرض، ولكن عندما يتعلّق الأمر بالمقاومة والعداء “لإسرائيل” فواجبك الوطني والأخلاقي أن تكون بصفهم.
هذا الجزء من الناس قد يتشجع للعمالة أكثر والتجرّؤ على هذا الفعل عندما يكون محتاجًا للمال، ولو أنّه ليس سوى عامل هامشي عند من يضمرُ هذه النيّة.
من الموقوفين بهذه التهمة الإعلامي محمد شعيب الذي ذُكر أنّه كانت مهمّته مهاجمة حزب الله عبر المنصات الإخبارية التي يعمل فيها، ولو أنّنا لا نستطيع الجزمَ بأنّه فعل هذه الأفعال قبل انتهاء التحقيقات، فقد حصل أن أوقِفَ أشخاصٌ بنفس التهمة واعترفوا بها تحت وقع التعذيب قبل تبيان براءتهم لاحقًا ولكن سنناقش الفكرة فقط. ورد أنّ المطلوب من مقالاته ترسيخ فكرةٍ عند الشعب اللبناني أنّ حزب الله هو سبب كل مصائب لبنان وأن الأزمة الاقتصادية وانفجار المرفأ وسوء العلاقات الخارجية كلها بسببه حصرًا وكأنّه ليس في البلد سوى حزب الله كي تزيد نقمة اللبنانيين على حزب الله وتنقص شعبيته وقبوله في المجتمع. فمن أهداف العدو “الإسرائيلي” أن ينتشر بين اللبنانيين تحميل حزب الله كامل المسؤولية في المصائب التي حلّت بهم سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. أداء حزب الله في الحكومات وفي المجلس النيابي لا يبرّئه من تحمل مسؤولية في ما وصلنا إليه، ولكن ليس الوحيد وليس الأبرز.
للتذكير أيضًا، أغلب العملاء الذين ما زالوا موقوفين هم من المسلمين بينما تمّ إخلاء سبيل جميع المسيحيين الذين أوقفوا عام 2009، وهذا إن دلّ على شيء فهو ربط بعض القوى السياسية في لبنان الصراع وتصويره إشكالًا بين المسلمين واليهود فقط وللمسيحيين حريّة الرأي فيه. هذه الفكرة تمّ ترويجها كثيرًا ليصبح الصراع والعمالة مجرّد وجهة نظر. وحدث أن تمّ الإفراج عن أشخاص من الموقوفين حديثًا رغم اعترافهم بالتخابر مع العدو الإسرائيلي لنفس السبب، وهذا موضوع خطير يؤسّس لتثبيت قناعة عند العديد من الناس أنّ هذا أمرٌ طبيعي وعقابه هيّن، فمع ازدياد الأصوات المجاهرة بقبولها بالتطبيع لا بل اعتباره تنوّرًا وفكرًا تقدميًا فقط “الفطاحل” ومن يتابعون الdocumentaries سيفهمونه ويعتبرونه صوابًا كما ادّعت الممثلة باميلا الكيك سيتمّ التأسيس لمرحلة تجميل الكيان “الإسرائيلي” والمناداة بالسلام (أي الاستسلام) معه.
تحصين المجتمع يبدأ من تربية وطنية صالحة، تربية اللبناني على اعتبار كل اللبنانيين شركاء له مهما بلغت الخلافات السياسية والدينية وأنّ ما يجمعهم أكبر بكثير ممّا يفرّقهم، وأنّ عدوّه وعدوّهم واحد، وعلى تقديم المصلحة العامّة على المصلحة الخاصة والمصلحة الضيّقة. كلّ هذا لا يحصل في ظلّ هكذا نظام وخاصةً في ظلّ هذا الانهيار، فللأسف يومًا بعد يوم يتصاعد خطاب الفتنة والعداء للبنانيين بعضهم لبعض ويستثمر الزعماء في خطابات العداوة بين بعضهم بعضًا إلى حدّ اعتبار كل من ليس في صفّهم وخياراتهم عدوًّا، ومع تفلّت أمنيٍّ وغياب شبه كاملٍ للدولة، قد ننظر للوضع اليوم في المستقبل القريب ونقول “ليتنا نعود لهذه الأيام”.