منذ عدة أشهر، تناقش روسيا والولايات المتحدة إمكانية وضع قواعد جديدة للعبة في أوروبا. ببساطة، نظام جديد للأمن الجماعي من شأنه أن يحل التناقضات الروسية -الغربية ويكون قادرًا على ضمان مبدأ الأمن غير القابل للتجزئة، فضلًا عن التنمية المستدامة لبلدان المنطقة. يبتكر الطرفان بعض المخططات المعقدة (موسكو تطالب بضمانات عدم توسع الناتو، وترد واشنطن بمطلب انسحاب القوات الروسية من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا . إلخ)، رغم أن هذه المشكلة في الحقيقة بسيطة للغاية وغير معقدة. والحل هو ضم دولة واحدة إلى الناتو، لا مولدوفا ولا جورجيا ولا حتى أوكرانيا، تحديدًا روسيا.
وللوهلة الأولى، فإن هذا الحل ليس بسيطًا ولطيفًا فحسب، بل إنه فعال للغاية أيضًا. إذا اعتبرنا الناتو هيكلًا يضمن أمن أوروبا، فإن دخول روسيا إلى الحلف يزيل على الفور جميع المخاوف الروسية بشأن أمن حدودها الغربية، فضلًا عن إزالة مخاوف الاتحاد الأوروبي من القوة العسكرية الروسية. يتم تقليل مخاطر بدء الحرب في أوروبا بشكل حاد وتبدأ العلاقات الروسية الغربية تتطور بشكل شفاف. علاوة على ذلك، فقط بهذه الصيغة يمكن تشكيل غرب جماعي حقيقي (كانت روسيا جزءًا منه لمئات السنين، بغض النظر عما يقوله أي شخص عن جوهر “الحشد”).
بالفعل جرت مناقشة مثل هذا السيناريو بالفعل في تسعينيات القرن الماضي. ولو حصل ذلك آنذاك، كانت الدول الأوروبية قد تخلصت من المشاكل، ولن يكون العالم على وشك شن حرب نووية عالمية بسبب البعض، أيًّا يكن. وعلى سبيل المثال الازمة الاوكرانية. لكن في ذلك الوقت لم تجرؤ الولايات المتحدة والدول الأوروبية على تحقيق مثل هذا السيناريو. والآن فات الأوان. روسيا لن تنضم إلى الناتو، حتى لو تمت دعوتها، وهو أمر غير مرجح.
عدم دعوة روسيا للانضمام الى الناتو
أولئك الذين ينظرون إلى حلف الناتو على أنه منظمة أمنية جماعية في أوروبا هم ساذجون مثل أولئك الذين يعتقدون أن الحلف كتلة دفاعية بحتة. تتمثل الوظيفة الرئيسية لحلف الناتو اليوم في إضفاء الشرعية على الوجود العسكري الأميركي في أوروبا، ونتيجة لذلك، سيطرت الولايات المتحدة على السياسة العسكرية والخارجية للدول الأوروبية. يوفر الناتو هذه السيطرة، ويبني علاقات عمودية في السياسة عبر الأطلسي، ويقضي على رغبة الدول الأوروبية الفردية في السيادة. يجعلهم يعتادون ويتفقون على أن جميع القضايا العالمية الخاصة بهم ستقررها الولايات المتحدة.
إن انضمام روسيا إلى الناتو يكسر هذا النمط. يظهر أقوى لاعب سياسي وعسكري أوروبي (مع كل الاحترام لفرنسا) في التحالف، والذي سيصبح مركز جذب للسياسة الأوروبية. نعم، تشترك أوروبا والولايات المتحدة في قيم مشتركة وروابط اقتصادية، ولكن فيما يتعلق بفهم التهديدات الأمنية والنظر إلى الفضاء الأوروبي المشترك، فإن أوروبا لديها الكثير من القواسم المشتركة مع روسيا. لذلك، من المحتمل أن تستولي موسكو جزئيًا على الشؤون الأوروبية من الولايات المتحدة، وهو ما لا تستطيع واشنطن السماح به.
لكن حتى لو تصرفت روسيا فجأة بهدوء ولم تتعرض لمشكلات سياسية، فإن انضمامها إلى التحالف سيظل يمثل مشكلة للولايات المتحدة. الحقيقة هي أنه من أجل وجود حلف الناتو، هناك حاجة لعدو عالمي، يجب على أميركا أن تحمي أوروبا منه، ومن أجل الحماية التي يجب على أوروبا أن تضحي من خلالها بسيادتها. اليوم، روسيا وحدها هي التي يمكن أن تكون مثل هذا العدو، حقيقي وملموس ومفهوم. هذا هو السبب في أن الولايات المتحدة كانت دائمًا في حالة الهستيريا المعادية لروسيا في السنوات الأخيرة أو روسفوبيا، ولهذا السبب تم إدراج روسيا في وثائق الناتو الرئيسية باعتبارها الخصم الرئيسي. إذا تحولت موسكو من خصم إلى حليف، فعندئذٍ ضد من سيكون الناتو؟ ضد من ستدافع عن أوروبا؟ ضد لاجئين من الشرق الأوسط، من إيران، من الصين البعيدة؟ أو أنها ستتحول ببساطة من كتلة عسكرية سياسية إلى نظام طبيعي للأمن الجماعي.
لماذا لن تنضم روسيا إلى الناتو؟
لا تطمح روسيا نفسها للانضمام إلى الناتو. وعلى عكس الوضع قبل 20 عامًا سيجلب لها هذا الانضمام مشاكل أكثر مما ينفعها. ولا يتعلق الأمر حتى بنوع من رد الفعل العام. نعم، سيرى العديد من ممثلي النخب الموالين للحكومة مثل هذا الدخول صفعة على الوجه من السلطات. لكن هذا يمكن إصلاحه. يمكنك دائمًا القول إننا ذاهبون إلى الناتو لإبعاد أوروبا عن الأميركيين. الروس، في الغالب، سيوافقون على ذلك. لكن المشاكل الحقيقية في الانضمام تكمن في المجالين العسكري والسياسي.
على سبيل المثال، لدى الناتو معايير عسكرية واضحة تستند إلى المخططات الأميركية، سواء من حيث هيكل القوات أو من حيث أنظمة الأسلحة. علاوة على ذلك، تمتلك روسيا أنظمتها العسكرية الخاصة، وقد تم تحديثها مؤخرًا. وماذا تفعل بها؟ رميها في سلة المهملات لتقبل المعايير الأميركية وتشتري أسلحة أميركية؟ أم مساومة على حقوق خاصة؟ من الواضح أن الكرملين لا يمكنه نقل أوروبا إلى استعمال أسلحة روسية، فحتى لو انضمت روسيا إلى الحلف، فلن يُسمح لها بالقيام بذلك، لأن الكثير من الأموال على المحك.
بالإضافة إلى ذلك، فكما أن أوروبا ليست مستعدة لضمان أمن الحدود الشرقية لروسيا، فإنها لا ترى ضرورة للمشاركة في الدفاع عن الولايات المتحدة. بمعنى آخر، المخاطرة بنزاع عسكري سياسي مع الصين إذا أدت محاولات الولايات المتحدة لإثارة قضية تايوان إلى غزو القوات الصينية للجزيرة المتمردة. لكن حتى بدون هذه الحرب، فإن دخول روسيا في التحالف سيؤدي إلى تدهور حاد في العلاقات الروسية الصينية.
لكن أهم عامل بالنسبة لروسيا هو سياستها المتعددة العلاقات، فضلًا عن رهانها على تشكيل عالم متعدد الأقطاب. حتى الآن، ساهم الغرب بشكل جماعي، بقيادة الولايات المتحدة، في استعداء الكثيرين بسبب السياسات المتبعة. ونحن لا نتحدث فقط عن الصين، ولكن أيضًا عن إيران، الحصة الأكبر من دول الشرق الأوسط وأفريقيا، وأميركا اللاتينية، وأجزاء من دول أوروبا الشرقية، ناهيك عن العالم الإسلامي كله. من خلال الدخول في تحالف مع الغرب، تُحرم روسيا فعليًا من وضعها المحايد خارجيًا والداعم للحوار واحترام السيادات للدول، ومعها حصة كبيرة من أدوات السياسة الخارجية. وهنا تتحول من قطب قوي إلى جزء من القطب الغربي، هي لا تحتاج إليه.
من هنا، هذا هو السبب في أن روسيا ليست بحاجة إلى التطلع إلى مجموعة السبع أو حلف شمال الأطلسي. من الأسهل والأكثر كفاءة والأرخص أن تكون بمفردها، قوة عظمى تسعى إلى تطوير العلاقات مع كل المستعدين لذلك، والدفاع عن أنفسهم ضد أولئك الذين هم الأعداء. لا تفضل روسيا أن تكون عدوًا للعالم.
غيفورك ميرزيان – أستاذ مشارك، قسم العلوم السياسية، الجامعة المالية التابعة لحكومة الاتحاد الروسي
صحيفة فزغلياد الروسية
ترجمة فؤاد خشيش