تحقيق | الوكالات الحصرية في لبنان: يطعمك الحج والناس راجعة!

في الوقت الذي طوّرت فيه غالبية الدول ذات الاقتصاد الرأسمالي نظامها وحرّرت أسواقها من ثقل الحصرية، حافظت السلطة اللبنانية على موروث الانتداب الفرنسي ووسّعت سوق الوكالات حتى بات ثلثا الأسواق اللبنانية تتسم بطابع احتكاري. إلا أن ذلك لم يمنع مشرّعي الوكالات الحصرية من التغني على مرّ السنوات، بـ”اقتصاد لبنان الحرّ وأسواقه المفتوحة”. وفيما يتخبّط البلد في انهيار اقتصادي ومالي غير مسبوق، يصعب معه الحديث عن أي حلول مؤثّرة، ينتظر المجلس النيابي اللبناني في 21 من الجاري، استحقاقًا تشريعيًا هامًا من شأنه أن يساعد في تغيير شكل الاقتصاد المنهار ويضعه على سكّة النهوض. فما هي الوكالات الحصرية وأثرها على الاقتصاد اللبناني وهل تنجح جهود إلغائها؟

ما هي الوكالات الحصرية؟
تعني الوكالة الحصرية أن هناك ممثلًا تجاريًا لشركة معيّنة قد حُصر به حق توزيع وبيع منتجاتها في منطقة جغرافية محددة. وعليه، فهو المتصرّف بهذه المنتجات لناحية التوزيع ولناحية التسعير. أما العجيب في لبنان، فهو أن الكثير من السلع الاستراتيجية المستوردة من الأغذية والأدوية لها وكالات حصرية. وقد شهدنا خطورة ذلك الأمر في أزمتنا الاقتصادية الحالية عبر احتكارها من قبل الوكلاء الحصريين ورفع أسعارها ومنع الفقراء منها وتنفيذ إملاءات السفارة الأميركية حولها والتهرّب من قرارات الحكومة بإتاحتها للناس وخفض أسعارها احتماءً بالقانون الذي يجيز ذلك.

وبعد مرور لبنان في الآونة الأخيرة، بالأزمة الاقتصادية، بدأ التعارض مع وجود هذه الشركات واضحًا، فقد أصبحت الأسعار تفوق القدرات الشرائية للمواطنين، خصوصًا أن أسعار السلع في هذه الشركات بالدولار الأميركي، وأن اشتراكها السنوي لم يزل بالليرة اللبنانية، أي أن لبنان لم يعد يستطيع حتى الاستفادة منها لإدخال الدولار إليه.

حقيقةً، فإن إلغاء الوكالات الحصرية “خطوة تاريخية”، لكنها غير كافية، وتبقى حاجة السوق ملحّة لإقرار قانون للمنافسة، ولكن هذا الاقتراح لم يلاقِ إجماعًا على قبوله، بل تم الاعتراض عليه من معظم الكتل، والسبب اشتراك معظمها مع الوكالات الحصرية. من هنا كرّست الدولة اللبنانية نفسها لخدمة المحتكرين (أصحاب الحق الحصري بالمبيعات أو المفوضين الحصريين بالبيع).

وفيما بدأت قضية الوكالات الحصرية تُناقَش في المجلس النيابي، مع وجود رأي وازن يدعو إلى إلغائها منعًا للاحتكار وإفساحًا في المجال للمنافسة فيها مما يؤدي إلى خفض سعرها، يُتوقّع أن تُواجه هذه الخطوة برفض أمراء الطوائف والدولة العميقة، الذين هم بالفعل الوكلاء الحصريون المسؤولون عمّا آلت إليه الأوضاع جرّاء الأزمة الاقتصادية المرعية من قبل السفارة الأميركية في لبنان.

الطائفة في خطر!
من المرتقب أن يتخذ المسار الذي يسلكه ملف إلغاء الوكالات الحصرية في لبنان، منحى طائفيًا، كون النسبة الأكبر من الحاصلين على الوكالات الحصرية منذ ما بعد الاستقلال إلى اليوم هم تجّار ومستوردون من الطائفة المسيحية، حتى باتت هذه الوكالات جزءًا من الامتيازات الطائفية، وهو ما دفع البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، إلى القول في تعليقه على مساعي إلغاء الوكالات الحصرية عام 2002: “القصة فيها وما فيها، يريدون أن يأخذوا منا كل شيء، ولا يريدون أن يكون للمسيحيين في هذا البلد أي وجود فاعل، وكأنه لا يكفي تغييبهم السياسي عن القرار وعن التمثيل الديموقراطي الصحيح”.

اليوم، تصطف القوات اللبنانية إلى جانب التيار الوطني الحر في رفض إلغاء الوكالات الحصرية، فيما يقف الثنائي حزب الله وحركة أمل في مقدمة المطالبين والساعين إلى إلغائها، ما يعكس صورة واضحة عن الأبعاد التي يأخذها الملف.

نظرة تاريخية
تكرّست الوكالات الحصريّة بموجب المرسوم الاشتراعي الرقم 34 سنة 1967، وقد عدل ليلغي الوكالات الحصرية على المواد الغذائية. وفي عام 1992 تمّ تحديد المواد التي لا تعتبر من الكماليات والتي لا تسري عليها الوكالات الحصرية وهي: المواد الغذائية للاستهلاك البشري والحيواني، ومواد التنظيف ومساحيق الغسيل، أي أنه تم إلغاء الوكالات الحصرية عن المواد الغذائية التي ليست من الكماليات ولكن تم الإبقاء على الوكالات الحصرية في الدواء وكأن الدواء من الكماليات وليس من الأساسيات كالغذاء. وفي عام 2002، أحالت الحكومة الى مجلس النواب بالمرسوم الرقم 7484 مشروع القانون بتعديل المرسوم الاشتراعي رقم 34/67، والذي نصّ على إلغاء الوكالات الحصرية مقابل إعطاء أصحاب هذه الوكالات حق تقاضي مبلغ يعادل 5% من قيمة البضائع والسلع التي تشملها الحصرية وذلك لمدة 5 سنوات.

وفي جلسة عقدها مجلس النواب بعد نحو سنتين من إحالة مشروع قانون الحكومة رقم 7484 أقرّ النواب القانون معدلاً فتم إلغاء الوكالات الحصرية بعدما تم إلغاء رسم الـ 5% وأن يعمل به بعد 4 سنوات من نشره في الجريدة الرسميّة، لكنّ رئيس الجمهورية حينها العماد إميل لحود ردّ القانون الى مجلس النواب بعد حملة اعتبرت أن إلغاء الاحتكار هو تعريض لجودة ونوعية السلع المستوردة، وصولاً الى حد اعتبارها تشكل اعتداء على حقوق طوائف معيّنة.

لا يكاد يطرح النقاش حول الوكالات التجارية في لبنان حتى تنقسم الآراء بين مؤيّدين لتحرير الاقتصاد من قيود حصرية الوكالات التجارية من جهة، ومؤيّدين لحماية نظام اقتصادي لبناني قائم على تلك الحصرية من جهة أخرى، فهل تستحقّ الوكالات التجارية حماية وطنية أم هي وسيلة احتكار يجب التخلّص منها؟

كيف تتوزّع الوكالات الحصرية بحسب البيانات التجاريّة؟
غطت عقود التمثيل التجاريّ كافة القطاعات الصناعية، فشملت الألبسة والأقمشة والأحذية، الساعات، الأدوات الكهربائية والالكترونية، الأجهزة والمعدات الطبية، الأدوية والمستحضرات الصيدلانية، أدوات ومستحضرات التجميل، الخردوات، الغالات والأقفال، السيارات وقطع الغيار والإكسسوارات والزيوت، الإطارات، المبيدات، المعدات الصناعية، المنتجات العسكرية، القرطاسية واللوازم المكتبية، المفروشات، البلاط والسيراميك، الأدوات المنزلية، الفضيات والكريستال، الأدوات الصحية، الأجهزة الرياضية ومعدات اللياقة البدنية، جميع لوازم الأطفال، الألعاب، استثمار أشرطة الفيديو.

يتمتّع هؤلاء الممثلون التجاريون بحماية قانونية وإدارية في لبنان، وهو ما يمنع غيرهم من التجار من استيراد أو توزيع السلع التي يُغطيها عقد التمثيل. وهذا ما دفع البعض الى المطالبة برفع الحماية عن الوكالات الحصرية بهدف تحفيز المنافسة وخفض الأسعار لصالح المستهلك، غير أنّ المشروع لم يبصر النور نظرًا للمصالح السياسية المتضاربة.

وأظهرت دراسة، أعدها الخبير الاقتصادي اللبناني توفيق غسبار في العام 2003، وتغطي 7402 مؤسسة، أن 7 شركات كبرى تسيطر على 60 في المائة من الاقتصاد اللبناني، وتتسم ثلثا الأسواق اللبنانية بطابع احتكاري، وتضاعفت أرقام الوكالات الحصرية منذ العام 2003، تاريخ إجراء الدراسة، حتى الآن. وقدّر البنك الدولي في العام 2007 الريع الناتج من الاحتكارات في لبنان بأكثر من 16 في المائة من الناتج المحلي، وهو أكثر من مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلّي.

عدد الوكالات الحصرية في لبنان
انتشر عبر موقع تويتر في الآونة الأخيرة خبر حول الوكالات الحصرية في لبنان يذكر أن عدد الوكالات الحصرية حوالي 3800 وكالة ولديها عشرات الآلاف من السلع، لأن كل وكالة تضم آلاف السلع من آلاف الأصناف. وبعد التحقّق من الإحصاءات المعطاة من وزارة الاقتصاد والتجارة تبينّ أن هذه الأرقام لا صحة لها وأن الإحصاءات جاءت كما يلي:

عدد الشركات الحصرية التي استمرت في عقودها مع الدولة اللبنانية منذ عام 2018 وحتى العام 2021، لا يتخطى الـ300 شركة.
أما إذا أردنا التوسّع لمعرفة عدد الشركات الحصرية التي تم التعامل معها في لبنان منذ العام 2005 وحتى يومنا هذا فهي تصل الى حوالي 2600 شركة.

لكن النائب حسن فضل الله، صرّح عبر قناة المنار أن 300 وكيل هو عدد الوكلاء القانونيين والذين التزموا بتجديد العقود مع الدولة اللبنانية، أما العدد الفعلي للوكالات الموجودة في لبنان فيتخطى الـ3000، وذلك من دون تجديد العقود بل عبر تغطية من قبل شركاء في الدولة.

ووزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام، هو الذي أبرز هذه الأرقام في اجتماع مجلس النواب الأخير، حيث صرّح أنه من أصل 3330 وكالة حصرية في لبنان هناك 316 وكالة فقط تلتزم بالقانون، من حيث تسديد الرسم السنوي، ومن حيث تجديد العقود.

وبحسب تقرير نشرته «الدولية للمعلومات» في نيسان الماضي، فإن «عدد أصحاب الوكالات الحصرية لا يزيد على 300»، لكن الواقع أن هؤلاء، على قلّتهم، يتوزعون على مختلف القطاعات وينفذون عليها احتكارات ضمنية عبر منع أي طرف آخر من استيرادها، فيحددّون الأسعار والأرباح كما يشاؤون.

ختاماً، هذه الوكالات الحصرية تفرض عبر الدولة رسومًا جمركية مرتفعة على أي شخص يحاول استيراد السلع التي تُصنّعها وتتاجر بها، أو تفرض غرامات مالية يتوجّب على التاجر أن يدفعها لهذه الشركة مقابل التجارة بسلع منافسة لها. بالتالي، فإن هذه الشركات تقفل الباب أمام الأعمال التجارية للشعب اللبناني، وتجبره على التعامل مع شركة واحدة لكل نوع من السلع ما يجعل المنافسة مستحيلة، خصوصًا أن هذه الوكالات تغطي معظم السلع الكمالية والأساسية.

تجدر الإشارة إلى أن هذه الوكالات تتناقض مع مطالبتها بسوق حرة وتجارة مفتوحة، وتلغي السوق التنافسية. على هذه الخلفية يجب التخلّص من احتكار هذه الوكالات وذلك على الأقل عبر التخلص من الوكالات الحصرية غير القانونية، وهذا يسهّل الأمر حيث إن القانون لا يحميها، وبالتالي تقليص الوجود الفعلي للوكالات بنحو 3014 وكالة، هو خطوة أولى نحو التخلّص من الضغط الذي تفرضه هذه الوكالات التي بدورها يتم التحكم بها من خلال أيادٍ خارجية وداخلية.

الناشر – مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير – وكالات

اساسيالوكالات الحصريةلبنان