علي حجازي* – خاص الناشر |
عصر يوم الاثنين الأخير من شهر تشرين الثاني عام 2009، عقد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله مؤتمرًا صحافيًا للإعلان عن “الوثيقة السياسية” التي أقرّها المؤتمر العام للحزب، وهي تضمّ رؤية حزب الله تجاه المنطقة والعالم، ورؤيته تجاه الوضع السياسي الداخلي اللبناني، إضافةً إلى عدة عناوين متعلّقة بالمقاومة والقضية الفلسطينيّة وعلاقات الحزب الاقليمية والعربية.
ذكرت الوثيقة في بندها الأول (الوطن) تحت الفصل الثاني (لبنان): “إن لبنان هو وطننا ووطن الآباء والأجداد، (….) ونريده سيّدًا حُرًا مستقلًا عزيزًا كريمًا منيعًا قادرًا، حاضرًا في معادلات المنطقة، ومساهمًا أساسيًا في صنع الحاضر والمستقبل كما كان حاضرًا دائمًا في صنع التاريخ”.
تُضيف الفقرة: “ومن أهم الشروط لقيام وطن من هذا النوع واستمراره أن تكون له دولةٌ عادلةٌ وقادرةٌ وقويةٌ، ونظامٌ سياسيٌّ يمثّل بحق إرادة الشعب وتطلعاته الى العدالة والحرية والأمن والاستقرار والرفاه والكرامة، وهذا ما ينشده كل اللبنانيين ويعملون من أجل تحقيقه ونحن منهم”.
شدّد حزب الله طيلة مسيرته، منذ إدراج وثيقته السياسية الأولى عام 1985، على مفهوم الوطن والدولة، وفرّق بينهما وبين السُلطة. هذا الوطن الذي قُدِّم لأجله آلاف الشهداء، يجب المحافظة عليه وتمتين بنيانه وانتزاع الهيمنة الأميركية عنه.
إن هذا الـ”لبنان” يتألّف من خلطةِ كياناتٍ شاركت بإنشائها كافة الدول التي استَعمَرتهُ (اقرأ: احتلَّتهُ)، وتلك التي كانت تتمتّع بنفوذٍ كبير داخل الساحة اللبنانية. فنشأة هذه الدولة كانت تقاسُمًا بين الدول التي ربحت الحرب العالمية الأولى، وظلّ نفوذها السياسي بعد “الاستقلال”(!)، فسَيطرت على مفاصل القرار السياسي وشاركت في إقرار الوثائق الدستورية والتشريعية. وبعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الولايات المتّحدة الأميركية بتوسيع مُستعمراتها بغية الاستفراد بحُكم العالم ضمن إطار “الأحاديّة القطبية” التي سَعَت لها وحصلت عليها عمليًا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ابتداءً من عام 1989 حتى سقوطه رسميًا نهاية عام 1991. ونال لبنان نصيبَه من تلك الأطماع باكرًا منذ منتصف القرن الماضي تقريبًا، نظرًا لطبيعة كيانه الهَشّ كما ذكرنا، وضعف بنيانه، وتسليم سياسيّيه بالمُطلق للدوَل المُهيمِنة (في حينه) وعلى رأسها فرنسا والمملكة العربية السعودية فيما بعد.
منتصف العام 1982 وصلت جحافل جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى مشارف العاصمة بيروت، ليَدخُل لبنان بعدها عصر الاحتلال الاسرائيلي الذي دام بشكل فعلي 18 عامًا، انتهى باندِحارِه ذليلًا تحت ضربات المقاومين والأهالي في 25 أيار 2000.
آمَنَ حزب الله منذ البداية بأنه لا إمكانية لبناء دولة قادرة وقوية بوجود احتلال عسكري على أرضها، وبالتالي فإن طرد المُحتل الإسرائيلي مثّل الخطوة الأولى لبناء الدولة المنشودة، وشكّل فُرصة ملموسة للبدء بورشة النهوض عبر تضامن كافة مكوّنات الوطن وشرائحه وانتماءاتِه. وأَسَفًا اصطدمت هذه الفُرصة بحائط النفوذ الخارجي المُسَيطِر على مكامِن القرار السياسي اللبناني، يسير في مركبه جُلّ الطبقة الحاكِمة كأدوات ومستفيدين، ضمن إطار منع لبنان من امتلاك قدرات الدولة الحقيقية واستقلال القرار وتفضيل المصلحة الوطنية على بقية المسارات، خدمةً للكيان الصهيوني الذي بقيَ يحتّل “الجارة” فلسطين.
بعد التحرير واجه حزب الله على جبهتَين: الأولى جبهة العدو الصهيوني الذي لا زال يتربّص ببلدنا ويحتلّ جزءًا من أرضنا، عبر تنمية القدرات العسكرية للحفاظ على التحرير والاستعداد “للمنازلات” القادمة. الثانية، الجبهة السياسية الداخلية، التي فُتِحت كخيارٍ آخر للقضاء على المقاومة أو بالحَدّ الأدنى تقويض فعاليتها، والتي ظهرت رسميًا عام 2005 ولا زالت مستمرّة حتى الساعة. وقد انضمّت جبهة ثالثة بعد عقد من التحرير، وهي جبهة الخطر التكفيري القادم من الشرق والشمال.
كان لِزامًا على حزب الله، في خضمّ المواجهة المفتوحة على الجبهتَين، أن يدخل بفعالية أكبر إلى الميدان السياسي الداخلي، خصوصًا بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، وذلك لعدة أسباب لعلّ أبرزها حماية المقاومة بعد اشتداد الحملة الشرسة عليها والتي تقودها أميركا، ومواجهة النفوذ الخارجي (الأميركي بشكل أساسي والغربي وبعض الدول العربية) في داخل هياكل الدولة والذي يمكن استخدامه في المعركة لعزل حزب الله بغية القضاء عليه ولأن هذا النفوذ هو من يقف عائقًا أساسيًا في طريق التغيير المنشود.
إن المهمّة ليست سهلة بتاتًا. هناك نقاط ضعف يمكن للأعداء الاستفادة منها وإشهارها في وجه المقاومة، ومنها العبث بالسلم الأهلي أو الانجرار نحو الحرب الأهلية، والتي تُؤرق المقاومة لاعتقادها، أولًا أن الحرب الأهلية هي حرب تدميرية لا يُبنى عليها أي أمل بالتقدّم أو النهوض، وثانيًا، أن كل الأطراف خاسرة (من الناحية الاستراتيجية وليس المادية المباشرة) في معركة الحرب الداخلية، إضافةً، أخيرًا، إلى أن سلاح المقاومة موجود للدفاع عن الوطن والحفاظ على سيادته واستقلاله وليس لاستخدامه بالداخل.
الحزب الذي لم يغب يومًا عن الميدان الاجتماعي، حاضرًا إلى جانب بيئته عبر مؤسساته الاجتماعية والثقافية والتربوية وغيرها، مُسخّرًا كافة موارده ومقدّراته في خدمة شعبه ومجتمعه المقاوِم، هذا المجتمع الذي وقف إلى جانب مقاومته سدًّا منيعًا بوجه ما يُحاك ضدّها من مؤامرات ومكائد، وكان مثالًا في الوعي والحكمة خلف مقاومته التي استعادت أرضه وصانت أعراضه. هذا ما شكّل نوعًا من العلاقة الاستثنائية بين المقاومة وجمهورها، يكمّل بعضه الأول بعضه الآخر.
إلى جانب المسار المباشر، كانت هناك استراتيجيّة اجتماعية حصّنت بيئة المقاومة على المدى البعيد، عبر الخُطَط الإنمائية التي تُعنى بالموارد البشرية والموارد المادية، والتحصين الثقافي والتربوي والعلمي، وجوانب أخرى لا يسع ذكرها في هذا المقام.
فهم حزب الله منذ انطلاقته طبيعة النظام اللبناني القائم، وحدود السيطرة الخارجية على أركانه، كما لحظ بنيان الدولة العميقة الحاكمة فعليًا، زعامات حزبية ذات شعبية وغالبًا ذات صبغة طائفية، النافذون في الادارات العامة المزكّون من الأحزاب والفعاليات السياسية والاقتصادية، المصارف ومن لفّ لفيفها ومن يتصّلون بها، نفوذ التُجّار الكبار، وكالات حصرية تحميها الدولة، إضافة إلى العشرات من الخصائص التي يتمتّع بها تشكيلُ الدولة اللبنانية. هذا التشكيل مُصان عبر شبكة من الحمايات الخارجية والنفوذ الدولي منه والعربي، جُلَّ أركانه (النفوذ الخارجي) يناصب الخصومة لحزب الله، وفي كثير من الأحيان العداء.
في الحقيقة، طبيعة “خلطة” النظام اللبناني تشكّل أرضية خصبة للفساد والفاسدين، نظامٌ مصنوع على قياس الانتماءات الطائفية والزعاماتيّة، يتَحاصَص الجميع تلك الخلطة ويسيّرها بحسب مصالحه واطّلاعاته. وقد كرّس اتفاق الطائف تلك المحاصَصة، ولو أنه بالشكل دعا إلى إلغاء الطائفية السياسية والذهاب نحو “المواطنة”، إلا أن تلك النصوص كانت شكليّة طالما أن من يتحكّم بمسار بنيان النظام هم أنفسهم الطوائف والجماعات المذكورة، وبالتالي أصبحنا أمام معضلة سلوك وليس معضلة نص دستوري وتشريعي.
من ناحية أخرى، ومن حيث طبيعة المكوّن اللبناني الوطني، فإنه وجب سلوك مسار التوافق، وهذا ما يُشار إليه بالنظام التوافقي. هذه الطبيعة لم نخترها نحن، بل كانت من نصيب هذه البقعة من الأرض. المشكلة ليست بالطوائف، ولا بالأحزاب، المشكلة تكمن في طبيعة فهم الهوية والمصلحة الوطنية والتعالي عن المصالح الشخصانيّة الضيّقة، وفي تحديد العدوّ الحقيقي للوطن والصديق الحقيقي.
هو إذًا صراع بُنيانيّ يتجاوز المسالك التقنيّة التي يُدار فيها النظام ويُبحث عبرها عن حل للأزمات المتلاحقة التي تعصف بشكل متتالٍ بهذا البلد. وبالتالي، فإن الخطوة الأولى لحلّ الأزمة هي فهم طبيعتها وخصائصها وأساساتها، والحديث عن الحلول التقنيّة البحتة يأتي بعد إصلاح البنيان الهزيل وإزالة الأسباب الكامنة خلف هذا الكيان الهَش القائمة عليه الدولة اللبنانية الآن.
ومن هنا يصبح البحث شاملًا، وتكتمل رؤية الأزمة وشوائب النظام الحاكِم: 1) كيان مصنوع من عوامل خارجية، 2) هيمنة أميركية بالدرجة الأولى، ومن ثم غربية وعربية بالدرجة الثانية، 3) أدوات حاكِمة تأتَمِرُ بالعوامل الخارجية، 4) عناصِر حاكِمة مُستَفيدة من العامل الخارجي، 5) مصالح خاصة وفساد مستشرٍ.
عبر هذه العناوين يبدأ النقاش بالحل.
الهيمنة الأميركية:
عام 2010 كانت سوريا في مرحلة متقدمة جدًا على الصعيد الاقتصادي والاكتفاء الذاتي، كما كانت من الأوائل في المنطقة من حيث الصناعة والناتج المحلي والتعليم والصحة. شُنّت على سوريا حرب كونيّة، استُخدمت من خلالها التنظيمات التكفيريّة، صنيعة الأميركيين، دمّرت المصانع والمنشآت الاقتصادية والتربوية، وعطّلت مصافي النفط ليجري تشغيلها لاحقًا عبر أميركا وأدواتها في منطقة الشمال السوري. هذا كله لأن سوريا رفضت الانصياع للمخطّط الأميركي للمنطقة والذي يصبّ في مصلحة الكيان الصهيوني بشكل مباشر وعلني.
أميركا، الراعي الأول للكيان الصهيوني، والتي ترى منطقتنا عبر الطاقة “الإسرائيليّة”، لا توفّر فرصة لاستغلالها في سياق معركتها ضد الحركات المقاوِمة، وخصوصًا حزب الله، الذي بات يشكّل خطرًا قوميًا استراتيجيًا على الكيان الاسرائيلي المُحتَل، الذي يتربّص بنا ليل نهار ولا تغفو عيناه عنا لحظة. هذا الاعتبار الأول الذي يجب أن يوضع على طاولة الحل. انتزاع الهيمنة الخارجية هو الهدف الأسمى للنهوض، ليأتي بعدها الإصلاح واستئصال الفساد ومحاسبة المسؤولين عن الانهيار.
وقد عملت تلك الدول الخارجية، على رأسها أميركا، على “سرقة” الحراك الشعبي المُحقّ أواخر العام 2019، وسعت بكل وسائلها مُستخدمةً المال والإعلام والأقلام المأجورة وما يُسمّى المنظمات غير الحكومية (NGOs)، من أجل تشتيت وَعي الشباب وتحريف البوصلة عن مسارها الطبيعي في مواجهة أرباب الفساد الحقيقيين، كما عملت على تصويب الغضب الشعبي اتجاه حزب الله وتحميل الأخير المسؤولية عما حدث من انهيار عمره الفعلي أكثر من ثلاثين عامًا بالحدّ الأدنى. كيف لا، وحزب الله يقف عقبةً أساسيّة في وجه مشاريع الكيان الصهيوني في المنطقة، وبالتالي في وجه مطامع الامبراطورية الأميركية في إطار مشروع السَطو على المنطقة وأَسر قرارها وارتهانها لها بالكامل.
هذه هي حقيقة المواجهة، وهكذا تقف أميركا في طريق نهوضنا وتقدّمنا. وللأسف، لا زال هناك عقولٌ لا تستطيع أن تَعِي حقيقة الأمر وطبيعة الصراع. نعم في لبنان فساد وسارقون ومجرمون، لكن العدوّ يرسم حولهم الحماية والرعاية الكاملة، على أمل أن يكونوا وقوده في حربه ضد المقاومة بغيَة القضاء عليها وإزاحتها عن خارطة المشهد اللبناني والإقليمي.
الدولة القادرة المنشودة هي التي تمتلك قرارها من دون تأثير خارجي، هي الدولة التي تمتلك جيشًا قادرًا على حماية أرضه من دون وجود قيود خارجية تمنعه من اكتساب عناصر القوة والردع. هي الدولة التي تحافظ على مصادر قوّتها وديمومتها، على رأسها المقاومة، لا أن تستهدف تلك القوة وتكون أداةً في صنع المكائد لها.
هذه هي الدولة التي نتطلّع لها، وسنُحَقّق هذا الطموح حتمًا، عبر الوعي والحكمة والإصرار، والعزيمة على المواجهة.
*ناشط لبناني